عندما قررت المركزيات النقابية الثلاث، الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، خوض "إضراب عام وطني" بسبب ما أسمته "التجاهل الحكومي لندءاتها ومطالبها" و"ضرب القدرة الشرائية لعموم المأجورين والفئات الشعبية" و"استمرار انتهاك الحقوق النقابية" و"تجميد الحوار الاجتماعي"، كانت تأمل أن يكون الإضراب "ناجحا" ويشل حركية مختلف المرافق العمومية والخاصة، لكنها في المقابل كانت تُخفي تخوفا كبيرا من "فشله"، لأن ذلك سيضيف زهورا جدية إلى مزهرية رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، وضربة "معنوية" للمركزيات النقابية التي دعت إليه. نضال وتخوف من الفشل وهكذا أهابت نقابات ميلود مخاريق ونوبير أموي وعبد الرحمان العزوزي بمناضليها ومناضلاتها إلى "الرفع من وتيرة التعبئة" من أجل تنفيذ وإنجاح الإضراب الذي وصفه بيانها المشترك، الصادر في 14 أكتوبر، ب"القرار النضالي والتاريخي"، وهي تعلم في الآن ذاته أنها اتخذت قرارا "صعبا" بشعار المثل المغربي الذي يقول "إما ربحة وإما ذبحة"، خصوصا بعد الإضراب الذي دعت إليه النقابتان المحسوبتان على حميد شباط وإدريس لشكر، والذي لم يظهر له أثر على الواقع، حسب محللين. وأعلنت النقابات ذاتها عن "القرار التاريخي" في 14 أكتوبر، وهي تتمنى أن يلقى نداؤها صدى لدى النقابات الأخرى وعموم المأجورين والعاملين، حتى لا تبقَ لوحدها في وضعية "شرود". ورافق هذا الإعلان هالة إعلامية وُصفت ب"الكبيرة"، يبدو أنها هي من دفعت نقابات أخرى إلى الالتحاق بقافلة الداعين إلى المشاركة في إضراب الأربعاء 29 أكتوبر. في المقابل، أعربت المركزية النقابية "الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب"، المقربة من حزب العدالة والتنمية "الحاكم"، عن رفضها المشاركة في هذا الإضراب، باستثناء ذراعها "الصحية" التي "عقت" قرار النقابة الأم وأعلنت المشاركة في الإضراب، وهو ما انعكس "سلبا" على نسبة الانخراط في الإضراب الوطني "الإنذاري". حرب ال15 يوما وطلية المدة الفاصلة بين 14 أكتوبر و29 منه، اشتعلت حرب "باردة" بين المؤيدين والمعارضين للإضراب الوطني، خصوصا على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، بين من يعتبر أن "الإضراب الوطني الإنذاري" خطوة في محلها ضد ما يصفونه ب"القرارات اللاشعبية" للحكومة، وبين من يرى في هذه الخطوة مجرد "تكتيك سياسي" يبتغي "عرقلة" الإصلاحات التي أطلقتها الحكومة في مجموعة من المجالات، ضمنها إصلاح أنظمة التقاعد ونظام المقاصة، وهي تُعلن أكثر من مرة أنه مستعدة ل"التضحية" ب"المصالح الانتخابية" من أجل "مصلحة الوطن والمواطن". انقسام ووصل يوم الأربعاء 29 أكتوبر، اليوم المحدد للدخول في الإضراب، وفي الوقت الذي فضل فيه البعض البقاء في بيته، فضل البعض الآخر الذهاب إلى عمله، سواء أكان في القطاع العام أو القطاع الخاص. وعلى مستوى مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" تحدث نشطاء من مختلف المدن في مختلف ربوع المملكة عن "حركة عادية" في الأسواق كما في المرافق العمومية، بعد بعض الاستثناءات والاختلافات من مدينة إلى أخرى. فبينما اشتغل ترامواي الرباط بشكل عادي، أضرب مستخدمو نظيره بالدار البيضاء، وفي الوقت الذي اختار فيه بعض أصحاب "الطاكسيات" الكبيرة والصغيرة الدخول في الإضراب قرر أغلبهم عدم الانخراط فيه، بل وتخلى مضربون منهم عن الإضراب ساعة أو ساعتين بعد انطلاقه بعدما وجدوا أنفسهم قلة كما حدث بمدينة مكناس، وسط المغرب. إعلان مبكر عن نسبة المشاركة، لماذا؟ وقبل أن يُتم يوم "الإضراب الوطني العام" 24 ساعة بكثير (حوالي 12:00 زوالا)، أعلنت المركزيات النقابية الداعية إليه بلوغ نسبة المشاركة حوالي 83,7 %، مما جعل المهتمين يتساءلون لماذا هذا التسرع؟ الجواب نجد بعض تجلياته في الرقم الذي ذكرته وزارة الإدارة العمومية وتحديث القطاعات حول النسبة ذاتها، والتي قالت إنها لم تتعدى 40 % بالقطاعات العمومية وشبه العمومية، فيما يظل تحديد نسبة المضربين في القطاع الخاص أمرا مستعصيا لعدم توفر لا الدولة ولا النقابات على وسائل دقيقة تُعطي أرقاما مضبوطة. ثم إن بعض المهتمين رأوا في هذا "التسرع" في الاحتفاء ب"النصر" هروبا إلى الإمام ومحاولة ل"ذر الرماد على العيون" وإعطاء مادة مبكرة للاستهلاك الإعلامي قبل خروج أرقام الحكومة التي قد "تُفسد الاحتفال". فيما اعتبر آخرون أن الأمر عادٍ جدا وأن النقابات تقوم بنشر هذه النسب في منتصف يوم الإضراب كي تطلع من يهمهم الأمر على تجاوب الشغيلة مع الدعوة إلى الإضراب. جدل الأرقام والتشكيك في النسبة ليس توقيت الإعلان عن نسبة المشاركة في الإضراب الوطني وحده من أثار الجدل، بل أيضا النسبة المعلن عنها. ففي الوقت الذي قالت فيه المركزيات النقابية إن النسبة بلغت 83,7 في المئة، صرح لوبير الأموي، الكاتب الوطني للكنفدرالية الديمقراطية للشغل، أنها بلغت 90 في المئة، فيما أرقام الحكومة تشير إلى أنها لم تتعدَّ 40 في المئة. عدد المشككين في رقم 83,7 في المئة كان كبيرا، خصوصا مع حديثهم عن حركة عادية لأغلب المرافق العمومية، وعدم انخراط الكل في الإضراب في بعض القطاعات رغم إعلان ذلك كما في القطاع البنكي. مما دفع البعض إلى التساؤل: "كيف أباحت المركزيات النقابية أن تستخف بعقول منخرطيها وبعقول المواطنين وتعلن نجاح الإضراب بهذه النسبة؟ ثم هل استطاعت المركزيات النقابية متابعة الإضراب في كل المرافق الحكومية وفي كل مقاولات القطاع الخاص واحدة واحدة وتحديد النسبة الحقيقية اي عدد المضربين من عدد المشتغلين المفترضين فعلا في ذلك اليوم؟"، حسب تعبيره. "مباشرة معكم" و"الصدمة القوية" معركة الإضراب استمرت خلال الليل، هذه المرة عبر البرنامج الحواري "مباشرة معكم" على القناة الثانية، وبينما حضر ممثلا عن الحكومة، مصطفى الخلفي، ومديرا بوزارة محمد مبديع، غاب عن البلاطو "زعماء" المركزيات النقابية الداعية للإضراب ميلود مخاريق ولوبير الأموي وعبد الرحمان العزوزي، وبعثوا بمن يمثلهم. وبدا ممثلا ال"كدش" وال"UMT" مرتبكين حينما بثت القناة ربورتاجا يُظهر حركة جد عادية يوم الإضراب في مجالي المطارات والسكك الحديدية، وربورتاجات أخرى من مدن مختلفة تساءل فيها المتحدثون لميكروفون "الدوزيم" عن: "واش كاين الإضراب؟"، وظهر جليا للمشاهدين أنها، أي الربورتاج، أربكت القياديين النقابيين وجعلتهما في موقف ضعف. السيدة أمل العمري، ممثلة الاتحاد المغربي للشغل، بدت متوترة أكثر من اللازم، وزاد توترها، حين "انهال" عليها الخلفي بالأرقام، فأجابت فجأة "الأرقام خليوها عندكم". وهو ما أعطى المشاهد انطباعا بأن الإضراب فعلا "فشل" وأن الرقم الذي تحدث عنه بيان النقابات الثلاث "مبالغ فيه". "الربح الوحيد" ويظل الربح "الوحيد" من الإضراب الوطني العام ليوم الأربعاء 29 أكتوبر، هو مروره في أجواء عادية، دون اعتداء على حقوق الغير، عكس ما وقع في "إضرابات وطنية عامة" سابقة، وهو ما نوه به النقابيون من جهة والحكومة من جهة ثانية. إلى درجة أن عزيز رباح، وزير التجهيز والنقل في الحكومة، قال إن ذلك دليل على أن "بلادنا بلد الحريات لكنه بلد القانون في نفس الوقت.. الإضراب وغيره أصبح شيئا عاديا.. ودولة القانون إذ لا حقك لك في أن تغلق الأبواب في وجه غير المضربين". وباستثناء "الربح الوحيد"، فيبدو أن أغلب المتتبعين للمشهد السياسي والنقابي بالمغرب يرون أن الإضراب الوطني العام لم يُحقق "شيئا كبيرا"، أولا، لأنه "لم يُحقق الإجماع" لدى كل المركزيات النقابية، ومرد ذلك، حسب محللين، إلى "التطبيع" مع هذه ظاهرة الاحتجاج، حيث كان الإضراب العام في السابق ينجح بسبب الخوف وبسبب بعض الانزلاقات العفوية أو المصطنعة، كما أن بعض الناس كانوا ينخرطون في الإضراب "اتقاء" لإتلاف متاجرهم والاعتداء على أغراضهم. وثانيا، لأن المطالب المطروحة تتعلق في أغلبها، إن لم نقل كلها، بالموظفين والمأجورين. وثالثا، لأن المركزيات النقابية استهدفت بشكل مباشر رئيس الحكومة كشخص من خلال الإضراب وهو الذي لا زال يحظى بشعبية كبيرة لدى المغاربة ربما ل"نظافة يده". ورابعا، لأنه تم إقحام قضية إصلاح صندوق المعاشات المدنية والاعتراض على الإصلاحات، والتي إن أغضبت الموظفين من الطبقة الوسطى، فإنها "أسعدت" زملاءهم في الطبقات الدنيا، خصوصا أولئك المستفيدين من رفع الحد الأدنى من الأجور إلى 3 آلاف درهم . وخامسا، لأن أحزابا سياسية "تراجعت" شعبيتها انضمت إليه فتسببت في تخلي العديدين عن الانخراط في الاحتجاج بسببها.