هناك فرقٌ كبير بين: بثِّ اليأس، وبثِّ الوعي بما يجعل الناس يائسين.. ومن طبيعة الكلام التفصيلي عن مصدر الألم أنه ربما يبعثُ على الألم، و"ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ"، فلا يألمُ سوى الأحياء، كما أن الطبيب عندما يخفي حقيقة علّة المريض عنه لا يُعتبر بذلك ناجحاً أو حكيماً، فالأصل هو أن يخبر المريض بحقيقة علته، لينصحه بالعلاج الأمثل، أو يشير عليه بالعلاج في مركز اختصاصي آخر.. وهكذا. ثم شكر النعمة لا يعني نسيان الحق، فإن المطالبة بالحقوق المشروعة لا يعني جحد النعم، بل إن من شكر النعمة حفظها من الضياع، وصونها من الهدر والمصادرة الظالمة. لذا فعندما لا ترضى إلا بحقك كاملاً لا يعني أنك تكفر النعمة، أو أنك "تعضَّ اليد التي أحسنت إليك"، مع ضرورة أن نفهم أن رد الحق المعنوي والمادي من قبيل الواجب المتّحتم لا الإحسان التطوعي، ولذا فعلينا أن نفرق سياسياً بين: أداء الواجبات، وفعل النوافل.. كما أنه لا يمكنك -مثلاً- أن تتصدق صدقةً طيبة على من سرقته أو غصبته حقه بعين المال الذي سرقته منه، فاللهُ طيبٌ لا يقبل إلا طيباً. والحقوق ليست فقط مقصورة في الجانب المادي أو الخدمي، بل تتجاوز ذلك إلى صميم الحق المعنوي كالحق في أن يكون لك رأياً في تدبير شأن بلادك، بأن ترشح –مثلاً- من تراه أقرب إلى الثقة والأمانة في ذلك، لا أن تستقيل من هذا الحق –الذي لم يمنحك لك أصلاً- لتترك للآخرين (وهم أعداء الأمة والدين) أن يديروا بلادك مستغلين هشاشة نظام حاكمٍ خاوٍ لا يمتلك الحد الأدنى من القدرة على الممانعة والتصدي لأي ضغط خارجي، وهذا ربما ما سيفسرُ اندفاع بعض الحكومات الرشيدة إلى امتصاص الضغوط بالاستجابات الانهزامية لها، وذلك بتنفيذ ما يريده الآخرون بحذافيره، وبصورة –أحياناً- حرفية ومستفزة تعكسُ فقدان مفهوم الاستقلال والسيادة الوطنية.. فماذا يبقى من الاستقلال الحقيقي لدولة صاغت نظمها التثقيفية والتنموية والتعليمية بشكلٍ جعلها تأخذ ما تمليه مقتضيات الخارج كأهم عنصر، لا بالشكل الذي كان يقتضيه الوضع الداخلي، فبدت تلك المشاريع "الإصلاحية" كما لو كانت تنفيذاً لقرارات أتخذها مجلس وزاري من دولة أخرى.. عندما نتطرقُ لمثل هذه الموضوعات فهو من بثِّ الوعي لتحريض الناس على أن لهم حقاً جوهرياً قد صُودر، فيجبُ عليهم فرضاً شرعياً لا شك فيه أن ينهضوا للمطالبة به، لا أنه نترك بلادنا ومقدراتها وعقولا نهباً للمنافقين واللصوص الذي لا يرقبون في مؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إلّاً ولا ذمة.