لطالما رددت فئة كبيرة من الناس مقولة الحرب على الاسلام والتآمر عليه دون أن يبحثوا عن حقيقة هذا الكلام ويدرسوا جوانبه المتعددة ، ويبحثوا عن أسبابه ومظاهره وتجلياته .. و الأمَرُّ من ذلك هو جمودهم و ركودهم وإيمانهم بالجلوس والقعود وانتظار الفرج من الله! واندحار الأعداء، وموت الخصماء! .. ونصرة الأصدقاء والأخلاء ! .. أما الفئة الأخرى فتعتقد بأن ما تعيشه الأمة اليوم من الذل والهوان، والخيبة والخسران، و الحرب والعدوان .. سببه ذاتي يرجع إلى ابتعادها عن منظومة القيم و الأخلاق وفساد منظومتها التعليمية ، في مختلف الأمصار و الأقطار، و ضياع أبنائها وتشتتهم في الأوطان و البلدان ، وفساد حكامها بلهوهم ولعبهم و تنقلهم بين الأحضان .. وبين هذا وذاك يضيع العقل العربي و الإسلامي تائها حائرا بين نظريتين لا ثالث لهما ، إما نظرية المؤامرة أو نظرية التفكك والتحلل الذاتي . دون أن يكلف نفسه عناء التوفيق بين هذين القولين و إبراز عدم تعارضهما عقلا ونقلا دون اقصاء احدهما نصرةً للآخر. لا يمكن للعاقل أن ينكر حجم التآمر الذي تتعرض له الأمة من طرف أعدائها بأيديهم وأيدي أبنائها، و ذلك راجع الى عدد من الأسباب : منها ما هو تاريخي ، و منها ما هو سياسي ، كما منها ما هو ذاتي طبيعي .. أما التاريخي فالإسلام آخر الديانات السماوية و شريعته ناسخة لما قبلها، قال تعالى : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " . ونبي هذه الأمة آخر الأنبياء وخاتمهم قال جل وعلا : " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ " .. وكما نعلم أن عادة الناس هي كراهية وبغض كل شيء جديد أتى على المصالح القديمة و نسفها، وهذا ما نجده عند اليهود والنصارى في علاقتهم بالدين الجديد الذي ظهر!.. و أما السبب السياسي يتمثل أساسا في فلسفة الاسلام و منهجه في الحياة ، فهو دين ودولة ، عقيدة وشريعة، مصحف وسيف ، علم وعمل ، دعوة وسياسة .. فبمجرد تمثل هذه المفاهيم حقيقة في نفوس المسلمين حتى يجن جنون الأعداء و يتم حشد الجنود والعملاء لغزو بلاد المسلمين بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة منها ، الفكرية والسياسية و الاقتصادية و العسكرية ... و أخيرا هناك سبب ذاتي يمثل طبيعة هذه الأمة ونوعية الرسالة التي تدعوا لها ، إذ هي رسالة للناس كافة، قال تعالى : " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " . ومن ثم فالرغبة الجامحة للمسلمين في تبليغ الدعوة و إيصالها إلى مختلف القارات و الأقطاب ، جعل منهم محط كيد و مكر من لدن العالم أجمع لوقف زحف هذا الدين الذي تمدد ولا زال بشكل أثار الرعب في نفوس أعدائه ، كيف يأمنون على مصالحهم و معتقداتهم و قد استطاعت هذه الملة الجديدة التوسع من طنجة الى جاكارتا، و من ضواحي باريس إلى بانجي في أقل من قرنين من الزمن ؟! كيف يأمنون على أنفسهم وقد استطاع المسلمون الانتصار على أكبر دولتين في العالم و دك معاقلهما و حصونهما و نشر الاسلام على ارضهما في سنوات قليلة جدا!! .. وبهذا كله يتحدد لنا حجم التآمر الذي نقصد، ومن خلاله يمكننا الاجابة عن سؤال " لماذا التآمر ؟؟ " قد يقول قائل ، ماذا لو كانت صفوف المسلمين متراصة ، و قواهم مجمعة ، وكتاب ربهم مُحكّم ؟ أكان يستطيع المتآمرون التأثير عليهم وهزمهم و اختراق صفوفهم ؟ .. طبعا لا .. ولهذا أردت أن أبين أن انحطاط المسلمين مرتبط أساسا بعاملين : أحدهما خارجي و هو ما وضحناه و أسبابه أعلاه.
أما الثاني داخلي يتمثل أساسا في ثلاث مظاهر : أولها إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة، و ابعادها عن الحكم و القضاء ، و تركها فقط للاستفتاء في أمور العادات و ما يتعلق ببعض العبادات ، للنأي بها عن البدع - كما يدّعي فقهاء البلاط - !! .. ومن أجمل ما قيل في هذا الباب قول الشيخ محمد الغزالي في كتاب مشكلات في طريق الحياة الاسلامية قوله " اذ يوجد بين المتدينين للأسف من يعتبر الدساتير بدعة مردودة ، لأن ضبط نواقض الوضوء أهم عنده من ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم " . وكذلك قول الله تعالى : " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " . ثانيا التنازع والتشتت ، فلا شك أن انقسام الأمة وانشطارها ، أثر بشكل كبير على قوتها ووحدة قرارها ، فافتقدت سياسة شؤونها ، و رهنت مصالحها لأعدائها ، و قد حذر تعالى من ذلك فقال : " وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ " . أما السبب الثالث وهو تحصيل حاصل لما سبق ، إذ أنه ناتج عن الضعف والهوان الذي بدأ يتسرب في النفوس و يدب للعقول و يسري للقلوب ، ألا و هو تقليد المستعمر و المتغلب و تبني أفكاره و تقليد ثقافته و نشر سياسته، كما قال ابن خلدون في مقدمته الشهيرة " المغلوب مولع بثقافة الغالب " ... و قد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ " .. لا بد للأمة اليوم أن تعيّ جيدا حالتها و تقوم بتشخيص مشاكلها و أعطابها و أزماتها المركبة من أجل تجاوزها ، وذلك لا يمكن أن يتم إلا بجهود أبنائها الأبرار من العلماء ، و جهابذتها الأخيار من المفكرين ، و صحافييها الأفذاذ من الإعلاميين ..