رياح جديدة تهب على وليلي، حاضرة الرومان في المغرب التي عاشت مجدا آفلا على غرار عواصم الإمبراطورية الرومانية في الجنوب المتوسطي، تنتفض ضد العزلة والإهمال، وتنفض الغبار عن كنوزها الأثرية التي يزخر بها الموقع التاريخي على سطح الأرض وفي باطنه. في هذا المجال المفتوح بضاحية مدينة مكناس (شرق الرباط) أطلال قوس النصر، أعمدة الكابيتول، معاصر للزيتون، معابد موقعة بتراتيل دينية، حمامات، أنصاب صخرية تؤرخ لأحداث واتفاقيات بين ملوك حقب غابرة، قطع معدنية وخزفية وأثاث منزلي... ذخائر ذات قيمة تاريخية فريدة تكتسي حياة جديدة تحت الشمس مع هذه الحركية التي يعرفها تأهيل الموقع التاريخي من خلال العديد من المنشآت التي ظهرت للوجود مؤخرا، على غرار متحف وليلي ومختبر الأبحاث ومركز التوثيق وإقامة الباحثين والخبراء الأثريين. وفي صلب هذه الحركية، طموح لإنعاش السياحة الثقافية وبعث الحياة في مكان شهد أمجادا في العمران والتجارة والتنظيم الاجتماعي والسياسي. متحف حضارات أقيم متحف وليلي -الذي فتح أبوابه مؤخرا بذات الموقع الأثري- في مبنى تحت الأرض، بحيث لا يزاحم المنظر العام للفضاء التاريخي. الكنوز الأثرية الرومانية أساسا، خرجت من مخزن تأكله الرطوبة إلى أروقة مجهزة تصاحبها أشرطة إيضاحية تبث عبر الشاشات. قطع تؤرخ لذاكرة مكان تعاقبت عليه الحضارات المورية والرومانية والإسلامية.
تتكامل محتويات المتحف لترسم صورة حاضرة مزدهرة بتقدم طرق الاستغلال الفلاحي والحس الحضاري في تصميم البيوت وتأثيثها والوعي بالفضاء العام، فضلا عن المعالم العمرانية التي مازالت صامدة، في ظل إحياء مجهودات الترميم لإنقاذ المعالم الباقية من المدينة، وكذا شواهد الحياة الدينية بأبعادها الأسطورية. يراهن مسؤولو الموقع -الذي سجلته اليونسكو منذ ديسمبر/كانون الأول 1997 في لائحة التراث العالمي للإنسانية- على المتحف كحلقة لتعزيز الجاذبية السياحية الثقافية وحفظ الكنوز التي ليست إلا جزءا مما كشفت عنه الحفريات التي بدأت بالموقع منذ 1915. ولا تزال 25% من المدينة الأثرية مطمورة في التراب، وفق محافظ الموقع مصطفى عاتيقي الذي يأمل أن تسمح الزيادة في المخصصات المالية خلال السنوات الأخيرة بتملك كل ما يختزنه الموقع من أسرار وكنوز. البقايا الفخارية والأدوات الحجرية المصقولة تدل على احتضان وليلي لتجمع قروي فلاحي منذ العصر الحجري الحديث، قبل أن تتأسس النواة الأولى للمدينة بالقرن الثاني قبل الميلاد من قبل جماعة من الموريين. وعرفت المدينة نموا حضاريا واقتصاديا في ظل الملك يوبا الثاني. وبعد ضم الإمبراطورية الرومانية لمملكة موريتانيا القديمة سنة 40 ميلادية، أصبحت وليلي بلدية رومانية احتضنت معالم شهيرة مثل المحكمة والمعبد الرسمي وقوس النصر وقصر كورديانوس. وفي العصر الإسلامي، استقبلت وليلي إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة الذي لجأ اليها سنة 789 ميلادية واتخذها عاصمة، لكنها بدأت مسار الأفول مع اختيار إدريس الثاني مدينة فاس عاصمة لدولته في المغرب الأقصى.
مركز متوسطي في خضم هذه الحركة الإحيائية، تحولت وليلي إلى موقع رائد على مستوى الكنوز الفسيفسائية في الفضاء المتوسطي الجنوبي. فقد اختيرت لاحتضان برنامج إقليمي هام تحت إشراف معهد "غيتي" GETTY الأميركي الذي يقود شبكة من أربع منظمات غير حكومية ناشطة بمجال حماية المواقع الأثرية عبر العالم، في إطار مبادرة لتثمين مواقع الفسيفساء التي تحفظ إبداعا بشريا هائلا على مستوى التصميم والتشكيل والزخرفة. برنامج "موزايكون" يروم تكوين فنيين ذوي مهارات عالية في التعامل مع القطع والأرضيات والواجهات الفسيفسائية، من جهة، وتأهيل قدرات المكلفين بإدارة المواقع الأثرية من جهة أخرى، بمشاركة شباب من المغرب وسوريا والجزائر وتونس ومالي وقبرص ولبنان. وهكذا، تحولت الفضاءات الأثرية لوليلي إلى مركز لورشات تجمع بين البعدين النظري والتطبيقي، بإشراف خبراء بارزين على المستوى العالمي، في أفق تمكين منطقة جنوب وشرق المتوسط من موارد بشرية مؤهلة لحماية وصيانة الكنوز الفسيفسائية التي تعد من أغنى مراكزها، بالنظر إلى تعدد وتنوع الروافد الحضارية بالفضاء المتوسطي. نقلا عن الجزيرة نت