غزة... يعرفها الجميع، مغاربة وعربا ومسلمين وعجما... من زمان. لأنها جزء من أرض فلسطينالمحتلة، تعيش حصارا فظيعا وحروبا تدميرية لا تنتهي... يَكْتُب أهلها ومقاوموها صفحات مشرقة من الصمود والكفاح في مواجهة أعتى قوة عسكرية استيطانية في منطقة الشرق الأوسط، إسرائيل... تازة... مدينة مغربية تاريخية تقع في شمال شرق البلاد على الطريق الرابطة ما بين الدارالبيضاء ووجدة في اتجاه الشرق، مدينة الجهاد ضد المستعمر الإسباني والفرنسي، تنتمي إلى "المغرب غير النافع" الذي ما فتئ يطالب بحقه في التنمية. ستقولون وما العلاقة ما بين قطاع غزة في شرق العالم العربي المتواجدة في قلب الصراع العسكري ما بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، ومدينة تازة، الموجودة في غرب بلاد العرب في بلد المغرب الذي ينعم باستقلاله منذ أكثر من نصف قرن؟ سؤال وجيه... لكن المطلعين على خبايا السياسة المغربية سيتعرفون في الحين على تلك المقولة التي أثتت فضاء التحرك الاستراتيجي لبداية عهد الملك محمد السادس إثر تربعه على العرش سنة 1999. حيث أثيرت بصراحة أولوية التوجه نحو الاهتمام بالبيت الداخلي قبل كل شيء، عبر المقولة الشهيرة "تازة قبل غزة"... يمكن أن نتساءل عن اختيار اسم مدينة تازة وربطها بغزة عوض مدن أخرى كالرباط مثلا، عاصمة المغرب، أو المدينة الاقتصادية، الدارالبيضاء أو المدينة السياحية ذات الإشعاع الدولي، مراكش... أعتقد أن الاختيار نابع من تقارب النطق ما بين تازةوغزة وكون هذه المدينة المغربية في حاجة إلى عناية وتنمية واهتمام أكثر... لكن الأهم من هذا كله هو البحث في عمق الأشياء لفهم العلاقة الجدلية ما بين مقولات تعبر عن تصورات استراتيجية وانعكاساتها على الوضع الداخلي الوطني والمحيط الإقليمي والجهوي والعالمي... اليوم، أصبح العالم قرية صغيرة... سكان العالم وضمنهم المغاربة يتفاعلون مع مختلف الأحداث حسب أهميتها وانعكاساتها على الفرد أينما وجد... تتبعنا جميعا الحدث العالمي لكأس العالم في البرازيل باهتمام شديد، نواكب عن كتب تطورات فيروسات "إيبولا" و"كورونا"... نهتم بتطورات الصراع في سوريا والعراق مع المعطى الجديد المتمثل في ظهور "الدولة الإسلامية" ونراقب كل دقائق تطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خاصة في غزة... وفي المغرب، نتتبع كل هذه الأحداث ونراقب قرارات حكومتنا في قضايا مختلفة، نذكر منها مثلا حمايتنا من الفيروسات وإعلان التضامن مع القضية العادلة لشعب فلسطين... وأحيانا كثيرة نسارع كأفراد ومجموعات إلى أخذ المبادرة للتعبير عن تضامننا من جهة والضغط من جهة أخرى على الحكام ودفعهم إلى مواقف أكثر وطنية وقومية... نخرج للمظاهرات، نكتب المقالات، نتعبأ على المواقع الاجتماعية ونُصَعِّد من حملات المقاطعة، مقاطعة إسرائيل ومنتجاتها ومؤسساتها ... كل ذلك من أجل فلسطين وشعب غزة الصامد... السؤال يطرح نفسه بقوة، هل المغرب الرسمي ما زال يتعامل مع المحيط الجيوستراتيجي العربي انطلاقا من مقولة "تازة قبل غزة" أم أن العالم عرف تطورات كبرى وتغييرات عميقة في المحيط العربي وداخل بنية الصراع الاجتماعي بالمغرب جعلت تلك المقولة متجاوزة وأن الظرفية اليوم هي في اتجاه مقولة "تازةوغزة" أي الاهتمام في نفس الوقت بتحرير "تازة" من التخلف وتمكين سكانها من العيش في كرامة والمساهمة قدر الإمكان في تحرير "غزة" من الاحتلال الإسرائيلي وتمكين سكانها من استعادة حريتهم وكرامتهم ورفع الحصار عنهم... لكن هل هناك تحولات عميقة خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة (1999 – 2014) تمكننا من الجزم أن التفكير الاستراتيجي لصناع القرار بالمغرب أعاد النظر في العديد من المقولات والمبادئ وتأقلم مع الوضع الجديد... وأيضا هل علينا طرح سؤال آخر، يتعلق بتغير بنيوي ومن ثم استراتيجي أم أنه اجتهاد مرحلي تكتيكي يتماشى مع نظرية "الواقعية السياسية"، أم هما معا؟... لكن لابد من توضيح بسيط حتى لا نترك المجال للاستنباطات المغرضة ل"خفافيش الظلام" أو بالأحرى "أصحاب الدسائس"... فأنا لست هنا بصدد نقض مقولة "تازة قبل غزة"، لأنني لست طرفا سياسيا معني مباشرة بالصراع السياسي الداخلي والخارجي بل ملاحظ يحاول فهم ما يجري ويدور... قرار إعطاء الأولوية للملف الاجتماعي والسياسي الوطني في بداية عهد الملك محمد السادس على الملفات الدولية والعربية يمكن فهمه انطلاقا من ضرورات توطيد البيت الداخلي للعهد الجديد قبل التوجه إلى القضايا الخارجية... وعلى كل حال هذه المقولة أسالت الكثير من المداد ومازالت وأحسن دليل مقالي هذا، وذلك نظرا لموقع قائلها وحمولتها السياسية والتاريخية... ماذا تغير ما بين الأمس (بداية الألفية الجديدة) واليوم (صيف 2014)... الكثير بدون شك، لكن هناك أشياء جوهرية تغيرت سنحاول بعجالة الإشارة إلى بعضها وليس كلها... هذه التغيرات ذات طابع دولي أو إقليمي أو وطني توضح بجلاء العلاقة المتينة والتأثير المتبادل ما بين الأحداث هنا وهناك، وترابط المصالح والمواقف ما بين الدول والحكومات والصراعات الخفية والعلنية وتموقع القوى من هذه الأطروحة أو تلك. في اعتقادي نعيش مرحلة نهاية وفشل الأطروحة الأمريكية حول "محور الخير والشر". أتتذكرون طغيان فكرة محاربة الإرهاب، عند بداية القرن الواحد والعشرين، خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001، والتي كانت من نتائجها شن الحرب على أفغانستان والعراق وتعبئة كل دول "محور الخير" في حروب داخلية ضد كل من له "علاقة" مباشرة أو غير مباشرة بالإرهاب... اليوم، كل الدلائل تشير إلى الاستعمال المفرط للقوة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية ونتائجها من حيث آلاف الضحايا المدنيين العزل وتدمير البنيات التحتية وتقسيم الأوطان ناهيك عن سقوط أكذوبة العصر حول توفر عراق صدام حسين لترسانة من الأسلحة الكيماوية... قلت، اليوم، النتيجة بارزة للعيان بحيث أنه في ظرف عشر سنوات اضطرت الدولة العظمى الأولى الانسحاب من أفغانستان والعراق، بعد تكبدها قتلى وجرحى كثر في صفوف جنودها، ومخلفة دمارا واستمرارا لحركة القاعدة وطالبان وظهور تيارات جديدة على شاكلة داعش... وما بين الفترتين، وبتأثير مباشر للسياسات المتبعة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها العرب، وقع ما لم يكن في الحسبان... انتفاضة الشعوب العربية ضد الاستبداد ومن أجل الحرية والكرامة... أطاحت برؤساء دول في كل من مصر وتونس وليبيا وبَصَمَت على تغييرات مهمة في بلدان أخرى كما هو الشأن بالنسبة للمغرب... هناك تقييمات مختلفة لحدوث هذه الانتفاضات ولصيرورتها ونتائجها... إجمالا، هناك شبه إجماع على كوننا نعيش في اللحظة الآنية خريفا عربيا بعد فترة قصيرة من ربيع الانتفاضات... أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية رغم انحيازها ودعمها للخريف العربي الذي يوافق مصالحها ومصالح إسرائيل، غير مقتنعة مائة في المائة من أن طريق قمع الشعوب والرجوع إلى مرحلة الاستبداد هما الكفيلان بتقوية وجودها ومصالحها الاقتصادية والسياسية بالمنطقة... لسبب بسيط، كون الانقلاب المصري بعد سنة من حدوثه يعاني صعوبات كثيرة إن على مستوى استمرار المظاهرات وتفكك النسيج السياسي وعدم قدرة النظام على إيجاد حلول اقتصادية واجتماعية تمكنه من تقوية شرعيته... ناهيك عن تفكك العديد من الدول بالشرق الأوسط وبروز تيارات "جهادية" مسلحة وانخراط آلاف الشباب في صفوفها من مختلف البلدان العربية والمهجر بأوربا... مما يعني إمكانية نقل التجربة إلى بلدان عديدة في العالم العربي وإفريقيا وحتى أوربا... كل هذا يطرح السؤال الأبدي والجوهري: هل الإسلام المعتدل بوابة لتقوية التيارات السلفية الجهادية أم بالعكس يشكل سدا منيعا في وجه هذه الحركات؟ وهل تهميش القوى الإسلامية المعتدلة من شأنه تقوية وراديكلية بعض أجنحته؟ نتحدث أساسا عن تيار الإسلام السياسي ما دامت التيارات القومية والليبرالية والاشتراكية والعلمانية تعيش أزمات تاريخية على مستوى الهوية والتنظيم والأفق السياسي... الولايات المتحدة الأمريكية تساند النظام الجديد في مصر وفي نفس الوقت تتتبع باهتمام كبير التجربة الحكومية في المغرب والتوافق التونسي وتترك الباب مفتوحا لدعم وتعميم، إما خيار إقصاء الإسلام السياسي المعتدل (حالة مصر) أو تقوية خيار التوافق وتمكين التيارات الإسلامية المعتدلة من الانخراط والمساهمة في تدبير شؤون الوطن (حالات تونس والمغرب)... هناك العديد من الدلائل تشير إلى دعم أمريكا للتجربة المغربية ومنها الزيارة الأخيرة لرئيس حكومة المغرب، القيادي الإسلامي المعتدل، عبدالإله بنكيران، لواشنطن، ممثلا للملك محمد السادس في القمة الأمريكية الإفريقية، ولقاءاته العديدة مع أهم المسئولين الأمريكيين... كدنا ننسى غزة... لا أبدا، لأنها مع فلسطين كانتا دائما في قلب الصراع والتحولات قديما وحديثا... اليوم، غزة أعطت الدليل القاطع على قدرات الشعب، رغم الحصار والتآمر، للدفاع عن حريته وكرامته والصمود في وجه أقوى طغيان واحتلال... اعتقدت إسرائيل أن الوقت قد حان لإنهاء وجع المقاومة بغزة وخاصة بعد القطيعة ما بين مصر وحركة حماس القريبة من الإخوان المسلمين... لقد أبان صمود شعب غزة وتوحيد مواقف المقاومة وكل التيارات السياسية الفلسطينية من سلطة في الضفة الغربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، على أن معركة التحرير والكرامة مستمرة رغم الإخفاقات والانكسارات... لنعد لمقولتنا "تازةوغزة"... أعتقد أن ملك المغرب مؤهل، اليوم، لكي يلعب أدوارا مهمة في المرحلة العصيبة المقبلة كمحور معتدل يقرب وجهات النظر ما بين مختلف الفرقاء نظرا لعلاقاته الوطيدة مع أمريكا وأوربا والخليج العربي وكذا الاستعانة بمختلف الأجهزة والمؤسسات والأفراد وعلاقاتهم مع مختلف الأطراف بالصف الفلسطيني من حركة فتح وحركة حماس... نعم، المغرب في وضع يسمح له بتقوية جبهته الداخلية والاستمرار في تجربته الديمقراطية وتطوير اقتصاده وحل مشاكله الاجتماعية وفي نفس الوقت تقوية حضوره على الأصعدة الجهوية والإفريقية والعربية بتبنيه مقولة "تازةوغزة"... وللحديث بقية...