نتساءل من جديد عن أهمية الدين في تغيير أحوال الناس وفي ادخال السعادة الدنيوية إلى نفوسهم؟ نتساءل عن الحرية والعدل هل في الدين أم في السياسة؟، قد نحاول استدراك ما فاتنا من أجوبة عبر حرارة الثورات وقد ننهزم بسبب برودة التردي والانقلاب، بل قد نهجر الاثنين ونركن في غرفة التاريخ لعل ذلك ينسينا الآفة (1) التي اصبتنا مجددا مع توالي زمن الانفلات و الركود! يبدو بمنطق التاريخ أنه لا فائدة من اعادة الاخطاء بل من اعادة نفس الأسئلة التي سيطر الحدث في الاجابة عنها، والحدث عندنا هو الاستعمار فلا تطور لجواب تحت مظلة العبودية! لكن في ضوء التاريخ وحده ومن خلاله نعيد قراء الثقافة و السياسة و الفن !. يقول المفكر المغربي عبد الله العروي على ضوء ما ذكرناه في المقدمة : ''(2) أن النقاش الملتهب اليوم في العالم العربي حول القديم و الحديث، حول التراث و المعاصرة، حول الدين والسياسة، حول القيم و المجتمع ...هو في العمق نقاش حول مفهوم التاريخ... ''. وتساءل العروي سؤالا جوهريا مفصليا لكل المشاريع النهضوية (3) :'' ما الهدف من الانبعاث : الوفاء للماضي أو الانتقام من قسوة التاريخ، أم كسب موقع مناسب من أجل المساهمة الفعلية في حياة الأمم؟ بعبارة أخرى ما هي القيمة الأساسية لنظامنا الفكري والخلقي : الوفاء أم الإبداع ؟...''، أكيد أن هذه الأسئلة الموجهة والموجعة تحمل بين حروفها منهجا سديدا في فهم الأوضاع وكشف الأوجاع، بل هي أجوبة خفية لمن استنار عقله بضوء التاريخ، أجوبة مختبئة تحت غبار التخلف توجد فقط في أعماق التاريخ، ونقصد هنا بالأجوبة المنهج لا الحلول كما يحلو للكثير من الحركات الرجعية تسميته!. من خلال حركة التاريخ يتبين لنا أن هناك معنيين للتاريخ،الأول طارئ نقصد به الانفلات و تعلم الحيل لتجنب الصراع وهذا المذهب يركن إليه "أهل الجماعة"، وبعض الفرق التي تحتمي بالمال في عش الاستبداد، ويخدم الاستمرار الطبيعي للحكم تحت غطاء الدين. المعنى الثاني أصلي وهدفه العبرة وتربية الإرادة، وهو ما اقصد به روح التاريخ الذي يحارب من اجل البقاء في زمن" الوحوش الثقافية ". نركز على المذهب الثاني في فهمنا للدين والسياسة إذ هو فلسفة للبحث والكشف، والتحدث عن هذا الخيار لا مفر من ذكر عملاقي التاريخ والفكر :ابن خلدون المغاربي، وميكيافيلي الايطالي، إذ من خلال استقراء نظرتهما للدين و السياسة نقترب اكثر من بناء منهج تحليلي للظاهرتين، بل إن القارئ العطف يستدل من تاريخ الدول أن الدين نافع لقيادة الجيش ومواساة الشعب (نموذج الدول التقليدية، دول الخليج و العالم العربي ) وتشجيع الأخيار وردع المفسدين (تركيا وبعض الحركات الإصلاحية في العالم العربي )، إذن دور الدين في التاريخ البشري براغماتي بامتياز إذ به تحقق المصالح و تفتعل الحروب، وهو روح السياسة، فتجد مثلا ابن خلدون يقول بأن العرب لا يحصل عندهم الحكم الا بصيغة دينية. لكن في المقابل كما يقول ميكيافيلي في كتابه الأمير " بعد انهيار روما اكبر وأمتن نظام سياسي عرفه التاريخ، وانهزام الرومان أفضل الناس أخلاقا، لا يمكن للمرء أن يتنبأ بدوام أي عمل إنساني "يعني أن السعادة لا تتحقق دائما بالدين ولا تنتصر الأخلاق دائما، وإلا فكيف سنفسر سقوط فلورنسا وبغداد كما سقطت الأندلس!.. بغض النظر عن أهمية الاستمرارية في الحكم فإن الرفاهية والعدل أساس الحكم، فهل يتحقق ذلك في دولة تحكم باسم الدين؟ لا أظن أن الأمر سيأخذ مساره الطبيعي في الانجاز، ونرجح كلامنا بالرجوع إلى تاريخ ما بعد نموذج حكم الخلافة (لا نقصد بالنموذج هنا الأفضل بل مثالا من بين أمثلة للحكم في العالم ) حيث عادت الفوضى وانحطت الأخلاق، فبدأ الحكم إمارة عادلة فتحولت باسم الدين إلى مستبدة" حكم معاوية وما ترتب عنه ". لا نريد هنا فقط ذكر الحدث بل البرهان على العودة إلى براثين الدولة الدينية كيفما كانت شكلية وطريقة الحكم سيؤدي حتما إلى أصولية تحكمية باسم "المطلق"، لا تقل ضررا من استبدادية الحكم الانفرادي باسم الحزب الوحيد، و هذا الأمر بالتأكيد يطرح إشكالية الأسس الأخلاقية والأفكار المرجعية في بناء الدولة في المجتمعات العربية بين القطيعة الجذرية مع التراث التاريخي و الحضاري أو الوصل المطلق المتماهي معه، وبين جمود فقه سياسي سلطاني متجاوز، و قد تبلور ذلك عند الباحث في العلوم السياسية سلمان بونعمان (4 ) في اختيارين أساسين : الأول يعتقد فيه أن الحل هو في بناء الدولة الحديثة وفي الاستناد إلى العلمانية باعتبارها مرجعية نهائية للدولة، بينما يرى في الثاني ارتباك الدولة العربية في تطبيق الشريعة، والحل يقتضي الضغط عليها شعبيا (في قضايا مرتبطة بالهوية ،مثال مدونة الأسرة بالمغرب، حيث نزلت حركتان إسلاميتان إلى الشارع ) أو عبر العملية الانتخابية و تكريس حضور الدين في العملية السياسية. لكن اليوم لابد أن نشير إلى الدور الذي لعبته الحالة الانقسامية في الفكر والسياسة وفي الثقافة عامة والإعلام خاصة حول ثنائية الديني والسياسي (الانتفاضات التي عرفها العالم العربي منذ 2011) حيث قزمت الأدوار الطلائعية للانتفاضات وعمقت الشرخ بين الديني و السياسي، وهنا نتساءل إذا كانت الدولة المدنية تعكس مضمون " ضد الدولة العسكرية " فلماذا لم تقدم أي نموذج للحكم لحل إشكالية الديني والسياسي ؟. لدي يقين غير جازم في حقيقة الأمر أن ليست هناك دولة مدنية بل هناك حالة مدنية تسري في عروق الدول الحديثة عبر مؤسساتها، وتشكل بذلك نمط عيش المجتمع، وبالتالي تتحول إلى ركن من أركان هويته. لا نجزم بهذا الكلام القطع مع دور الدين بل نقول أن أحد تمثلات هذا الدين التي يجب ان تكون هي إذكاء روح المدنية في الحياة العامة، ودعم كل ما هو مدني ..لذلك نجد هذا التمثل في تصوير الاوروبيين "5" : "أن الدولة مماثلة للجسم البشري، فرجال الدين هم الرأس والحاكم هو القلب، والجنود هم الأذرع والمزارعون هم الأقدام"، قد لا نتفق مع هذه الطريقة في التصوير لكن الذي يهمنا هو الدور الذي أعطي للدين، و قد لا نستبعد هذا التمثل لكن في تصوير أخر (الحديث النبوي "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ..). يمكننا أن نخلص إلى أن الدين مهما يكون مضمونه أو طريقة العمل به في الحكم فهو بمثابة سلطة روحية يمارسها الحاكم في تدبير امور الدولة وقد يصل به الامر أي الحاكم الى التحكم في حركة المجتمع (نموذج السعودية: لا تعددية ولا أحزاب، إنها دولة أوهمت شعبها و أرغمته على طاعة الاستبداد، كما تؤثر هذه الدولة على باقي العرب كأنها تحمل حق الفيتو في امورهم السياسية والدينية للآسف.. متى ستغير السعودية من سخافتها السياسية وتتحرر من انسداد افق الفكر الديني لديها ؟). (1) : رواية الآفة لعبد الله العروي تكشف الغموض الثقافي عند العرب و عن ازمتهم التعليمية في فترات تاريخية. (2) المشاريع الاصلاحية التي ظهرت بعد هزيمة العرب 1967 على يد الكيان الاسرائيلي. (3) :من كتاب ثقافتنا في ضوء التاريخ للمفكر عبد الله العروي . (4) : انظر ص 108109 من كتاب «أسئلة دولة الربيع "العربي" نحو نموذج استعادة نهضة الأمة للكاتب سلمان بونعمان. (5) هذا التصوير المقارن مأخوذ من فصل "الخلافة و الدولة" في كتاب عالم المعرفة "الاسلام و الغرب" ل أنتوني بلاك.