أبدا لم يكن ديربي الدارالبيضاء بين الغريمين الوداد والرجاء مباراة عابرة في أزمنة عابرة، صحيح أن الديربي لا يعدو أن يكون مباراة لا تختلف شكلا وجوهرا وعمقا عن كل المباريات التي تتعاقب على مشهدنا الكروي الوطني في بطولتنا الإحترافية، إلا أنها في حكم التأريخ وكتابة الذاكرة تشكل لحظة متفردة في تاريخ كرة القدم الوطنية، ذلك أن كل مباراة من مباريات الديربي على مدى العقود الستة التي إنصرمت، منذ التأسيس لبطولة وطنية في مرحلة الإستقلال إلى اليوم، هي مرآة عاكسة لما كان وسيكون عليه المشهد الكروي الوطني، وهي عنصر من عناصر التأريخ، وبهذا المعنى يصبح الديربي شاهدا على العصر. عندما تأخذنا النوسطالجيا للزمن القديم، يبرع كل منا في هندسة المشاهد وفي التغزل بلحظات إرتقى فيها الإبداع لدرجات خرافية ونتفاوت في تجميل الديربي بحسب ما ترصده العين وترحله بالكامل إلى خزائن الذاكرة، لذلك كان الديربي قديما وحديثا هو وحدة من وحدات قياس درجات الإبداع في كرة القدم الوطنية، بل إنه يكاد يكون واحدة من أكبر المرجعيات الكروية بمظهريها التكتيكي والإحتفالي. لقد إنتقل الديربي إسوة بكرة القدم الوطنية على مدى العقود الستة المنقضية من مراحل كثيرة، في البنية الفنية وفي الصورة الجمالية المصدرة وفي كل التعبيرات التي يسوق بها نفسه عربيا وعالميا، فإذا كان الديربي في العقود الأربعة الأخيرة من القرن المنتهي قد مثل للأندية العالمية والأوروبية منها على وجه الخصوص سوقا رفيعة تعرض فيها الإبداعات الفردية، بدليل ما كان يتدفق من أعداد كبيرة للجواسيس التقنيين وللسماسرة ولوكلاء الأعمال على الديربي كتعبير عن العملة الثمينة لهذا الديربي في سوق المعاملات، فإن العقدين الأوليين من القرن الحالي سيحملان متغيرا كبيرا على مستوى تصدير الفرجة والإحتفال إلى العالم. لقد بات الديربي البيضاوي علامة فارقة في المشهد الكروي العالمي، إذ سيستغل بشكل رائع عولمة فرجة كرة القدم ليقدم نفسه بصورة فيها الكثير من الخلق والإبداع بهوية مغربية، حتى أن ما نشاهده في كل نسخة من نسخ الديربي من صور كاليغرافية ومن ملاحم فنية ومن رسائل عميقة تلتصق بالموروث الفكري المغربي وبثقافة الإنتماء، يجعلنا نفتخر ونباهي بأن لنا حدثا كرويا ننافس به العالم، إن لم يكن على مستوى الفرجة التكتيكية على رقعة الميدان فعلى مستوى المدرجات التي تشهد سيمفونيات، بها أصبح الديربي ماركة مسجلة عالميا وبها أصبح واحدا من أفضل خمسة ديربيات في العالم. وعندما يعظم شأن الديربي البيضاوي ليصبح رسالة شعب وصورة بلد، فإن مسؤولية هذا الحمل التاريخي الثقيل تقتضي أن تناهض جماهير الفريقين كل أسباب ومسببات الشغب وأن تحرص كل الحرص على أن يخرج الديربي البيضاوي بما عهدناه فيه بلا شوائب وبلا تشوهات. ولأنني ما أذكر أن الديربي إمتثل يوما لصوت الأرقام أو المراكز، فإن النسخة 119 لن تحيد عن القاعدة، في أن تكون مباراة مشنوقة تكتيكية، محمولة على تعبئة نفسية قوية لتصريف ما يرافقها من ضغط، ويرتبط مصير نتيجتها بقدرة هذا الفريق أو ذاك في حسم أدق الجزئيات لصالحه من دون تدقيق النظر لا في التباعد الحاصل في المراكز بين الوداد والرجاء ولا في ما يختلف فيه الفريقان على مستوى المؤدي التقني. وطبعا خلف هذا الشحن النفسي وخلف كل الصرامة التكتيكية التي تفرض على اللاعبين، فإننا نتوق لأن تكون هناك معابر يستطيع اللاعبون الخروج منها بلوحات فنية جميلة، تنضاف لتلك التي سترسم على المدرجات، لتكون كرة القدم الوطنية هي الرابح الأكبر من ديربي لبلاد.