يقول الله عز وجل في محكم كتابه العزيز "قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن ءَامنا بأيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين" [الاَعراف، 124-125]. سيق هذا الدعاء في مقام مقالي-قصصي قص الله تعالى من خلاله جانبا من الحيثيات التي عرضت لموسى عليه السلام مع فرعون وقومه. يتعلق الأمر بما حصل لسحرة فرعون عندما أدركوا وتبينوا أن ما جاء به موسى عليه السلام خارج عن أعمال السحر ولا يطيقه بشر. فلما رأوا تَلَقُف عصا موسى لحبالهم وعصيهم تيقنوا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر، وعلموا عندئذ أنه من تأييد الله تعالى. لذا لم يسعهم بعد هذا التبصر إلا إعلان إيمانهم، فسجدوا كما قال تعالى: "وألقي السحرة ساجدين قالوا ءَامنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون ءَامنتم به قبل أن اذن لكم إنه لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون" [الاَعراف، 119- 124]. لقد فضل السحرة واختاروا الرجوع إلى الله تعالى على الرغم من تهديد فرعون لهم بالقطع والصلب. كما أدركوا أن منشأ إنكار فرعون ونقمته عليهم وحقده عليهم هو إيمانهم بالله تعالى. وهكذا، وانطلاقا من ذلك الاختيار الإيماني، وهذا الإدراك العميق انتقلوا من خطاب فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى فقلوا- كما يحكي القرآن المجيد-"رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ". ويظهر من هذا الدعاء أنهم طلبوا أمرين: أولهما الثبات على الحق، لقوله تعالى: "وتوفنا مسلمين": طلبوا الثبات على إسلام الوجه لله تعالى ومخلصين لما جاء به موسى من تعاليم. لا ننسى-الوجه لله تعالى ومخلصين لما جاء به موسى من تعاليم. لا ننسى- سحرة، وأمسوا في آخره شهداء[1]. والأمر الثاني الصبر لقوله تعالى: "ربنا أفرغ علينا صبرا"، أفض علنا صبرا يغمرنا، وأكرمنا بالصبر على ما يمكن أن نكابده من عذاب فرعون. أي "هب لنا صبرا واسعا وأكثره علينا حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغا"[2]. ويبدو من هذا الدعاء هذا أن هؤلاء السحرة طلبوا بعد إيمانهم بالله تعالى أبلغ أنواع الصبر كي لا يرجعوا كفارا. وعلى كل حال في هذا الدعاء القرآني استعارة بين أنواعها الإمام ابن عاشور بقوله: "شبه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس على طريقة الاستعارة المكنية، وشبه خلقه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخيلية؛ فإن الإفراغ صب جميع ما في الإناء، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر؛ لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية"[3]. -------------------------------------------- 1. تفسير الطبري، ج: 9، ص: 24. 2. الزمخشري، الكشاف ج: 2، ص: 491، وفتح القدير للشوكاني، ج: 2، ص: 235. 3. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 9، ص: 56.