تناول كمية متوسطة من الكافيين يوميا قد يقلل من خطر الإصابة بألزهايمر (دراسة)    إيداع مستهدف للموكب الملكي "بقنينة مشتعلة" مستشفى الأمراض العقلية    الأغلبية البرلمانية تناقش آليات تفعيل خطاب الملك بشأن الوحدة الترابية    أزمة دبلوماسية بين الهند وكندا بعد اغتيال زعيم انفصالي في فانكوفر    غلوري توقف بنصديق ل10 أشهر بعد ثبوت تعاطيه للمنشطات    كأس أمم إفريقيا 2025 بالمغرب.. الجزائر تحجز بطاقتها إلى النهائيات رفقة الكاميرون وبوركينافاسو        بتنسيق مع المخابرات.. الأمن يوقف مزوراً للأوراق المالية بسلا    جوزيب بوريل يجدد التأكيد على "القيمة الكبيرة" التي يوليها الاتحاد الأوروبي للشراكة الاستراتيجية مع المغرب    أزيد من 3 ملايين مسافر عبروا الموانئ المغربية خلال عملية مرحبا    آيت الطالب يعلن عن قائمة جديدة من الأدوية التي سيتم خفض أسعارها    الوزير بنسعيد: إذا لم يشعر الشباب المغربي بالثقة سنعيش مجددا ما رأيناه في الفنيدق                إصابة لامين جمال تربك حسابات برشلونة قبل قمتي بايرن ميونيخ وريال مدريد    بعد 10 سنوات زواج...طلاق فرح الفاسي وعمر لطفي    رئيس مجلس الشيوخ البرازيلي: بلادنا تتطلع إلى الارتقاء بعلاقاتها مع المغرب إلى مستويات أعلى        فيضانات تازة تودي بحياة سيدتين وتخلف خسائر مادية جسيمة    الكاتب العام لعمالة إقليم الناظور يترأس الذكرى 26 لوفاة الملك الحسن الثاني    "البام " يرشح إبن برلماني من "الأحرار" لخوض غمار الانتخابات الجزئية بخريبكة    الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء – سطات تطلق عملية واسعة النطاق لتنقية شبكة التطهير السائل بالجهة    تعليق الدراسة اليوم في مدارس العالم للقروي بورزازات بسبب الأمطار الطوفانية    مجلس المالكي يُؤكد سطوة الخيار الفرنسي على التعليم باتفاقيات جديدة للشراكة    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة بحبات البرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الإثنين    عجز الميزانية بالمغرب يتراجع إلى 26,6 مليار درهم عند متم شتنبر (الخزينة العامة للمملكة)    تحذير من أمطار عاصفية هذا اليوم    دولة إفريقية تعلن تسجيل أول حالتي إصابة بفيروس جدري القردة    "لوموند": المغرب لديه "أكبر مسرح" في إفريقيا كلف بناءه 200 مليون أورو لكنه مغلق    فيلم "تيريفاير 3" يتصدر شباك التذاكر    دارون أسيموغلو وسيمون جونسون وجيمس روبنسون يفوزون بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2024    ماريا نديم تظهر لأول مرة مع مولودها وتكشف عن إحساسها بالأمومة (فيديو)    هذا موعد الدورة المقبلة من مهرجان موازين إيقاعات العالم    هزالة الأجر ومدة التعاقد وقضايا أخرى تدفع الأطباء المقيمين والداخليين للإضراب    تراجع أسعار النفط بفعل مخاوف بشأن الطلب في الصين    دراسة: تناول كميات طعام أقل قد يكون له تأثير إيجابي على متوسط العمر المتوقع        الكاف يحدد موعد انتخاباته الرئاسية    حزب الله يستهدف ثكنة في وسط اسرائيل    "الفوارق في الثروة" تفوز بنوبل الاقتصاد    ترتيبات جديدة تنظم "إسعاف السفر"    دراسة: الذكاء الاصطناعي ساعد في اكتشاف آلاف الأنواع من الفيروسات        جامعة كرة القدم تكرم لاعبين دوليين بالمنطقة الشرقية    المعهد المغربي للتقييس يخلد اليوم العالمي للتقييس    رحيل المفكر اللبناني مصطفى حجازى صاحب كتاب "سيكولوجية الإنسان المهدور" عن عمر ناهز ال 88 عاما    قتلى وإصابات خلال قصف حزب الله لإسرائيل    السلاح النووي والصراع بين إسرائيل وإيران يدقان ناقوس الخطر في المنطقة    توقيف شخص مسلح قرب تجمع انتخابي لدونالد ترامب    قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مركز توزيع أغذية في جباليا    من التصيد إلى الاحتيال .. هكذا تحمي نفسك في العالم الرقمي    أعراض داء السكري من النوع الأول وأهمية التشخيص المبكر    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسر بين الواقع والمأمول
نشر في ميثاق الرابطة يوم 13 - 12 - 2012

الأيام تمضي ولا يسمح الزمان إلا أن يسير بالأسر، لا يقف على هوى أحد، كالنهر الذي ترده فإن عدته إليه مرة ثانية تجده غير الذي وردته أول مرة، وقل كالتاريخ الذي يمتد إلى أعماق الأحقاب السحيقة، تسائل أدراجه علك تلتقط فكرة لفك رموزه التي تشغل بالك؛ لأن دنيا الأسر الحاضرة لا تماثل دنيا الغابرين، وهكذا منحنى المعارف الإنسانية على درب الحضارة الإنسانية في تغير، تتفجر من خلالها منابع الإصلاح في العلائق الاجتماعية، في زمن عاصف لا يعطيك إن لم تتحكم في آلياته، وكلما كان نبض التاريخ حيا في ضمائر الأسر عرفت كيف توفق بين الواقع والمأمول، وبذلك يتعاون ذكاؤها مع ذكاء التاريخ لصنع الأجيال، أجيال الأمجاد النابض بالدفء والتفتح على عالم من الجمال الإنساني، والدخول على الحياة على سجيتها وطبيعتها الوادعة، الدالة على وحدانية الخالق وصدق الله العظيم إذ يقول: "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [يوسف، 40].
ومن الأسر يتعرف المجتمع الإنساني على الباعث والمبعوث، والواقع ليس أضغاث أحلام، ولا شطحات خيال؛ لأن العلم بأسرار الحياة يبصر العقلاء ببديع صنع الله تعالى، ويفتح العقول على إتقان في الخلق له مغزاه ومعناه، وبالعلم ووسائله المتطورة تغوص الأفكار إلى لب الحقيقة؛ لأن الله تعالى يقول: "وما يعقلها إلا العالمون" [العنكبوت، 43]، والأسرة الأعجوبة أو المعجزة أو سمها ما شئت بل ظاهرة تثير الإعجاب وتدفع بالفكر الباحث، المنقب المستفسر في مسيرتها المتفاعلة في جسر التواصل مع أجيال الأمة، وغيرها من أجيال البشرية التي حطمت أركان التخلف وفككت قيود العزلة، فكانت في طليعة من تسلم قيادة أبنائها وبناتها حتى يكونوا على اتصال حضاري دائم وإيجابي، باقتباس المحاسن واجتناب المحاذر قال تعالى: "قل اِن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [اَل عمران، 72-73].
وهنا لابد من التحليل العقلي والإدراك الفكري لما تعرضنا له من كوارث، للخروج برؤية جديدة تدفع بالأمة لإعادة البناء لمن أراد الإنقاذ للبقية الباقية من حربنا الخاسرة والصراخ في صحراء لا يسكنها إلا الأشباح، وإلا سنجد أنفسنا جثة هامدة ملقاة لا يعبأ بها الأقوياء، تحرقها الشمس وتذروها الرياح، وانطلاقا من الدور الكبير الذي تقوم به الأسر لترسيخ الإيمان بالقيم الإسلامية ومبادئه الخلقية، وبالعمل على تكامل الشخصية الإسلامية وتجنيبها المؤثرات الضارة، لتفيض القرائح المبدعة التي لا تحد آفاقها، ولا تسبر أغوارها، ويبقى نهر العطاء دفاقا عذب المذاق من البنين والبنات، يمتد إلى الأعلى كشجرة متشابكة الأغصان تتماوج من خلالها الخضرة النضرة، والثمرات الناضجة "أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اَتقوا" [الرعد، 36].
والإنتاج المشترك بين الأسر حلقات متصلة تسلمها الأولى لمن تليها، فبقيت الإرادة حية نابضة رغم المعاناة ولو انقطع هذا التواصل لكانت الأمة اليوم جثمانا محنطا غير معروف الهوية، ولولا وقوف هذه الأسر صامدة تتأمل شؤون الناس والعالم من حولها، وتكشف عن مدلولات جديدة للحياة لما يجب أن تكون عليه الإنسانية السوية، في مضمار الحرية والحب والسلام لخلاص البشر من القهر والإذلال، والانتقال بالكل إلى الطيبة والعدالة النابتة من الذات الإسلامية النافخة روحا جديدة في أوصال الإنسانية الشاحبة.
ومنذ مئات السنين وأمتنا تتلقى اللكمات ولولا قدرتها على الجلد والاحتمال والثبات لتوارت ظلالها، ولعل من الإنصاف أن الظروف القاسية جنبتها السكتة القلبية لما تعلقت بدينها الطبيعي، وإيمانها الفطري مع الطبع النقي، وحتى هذا الذبول الحضاري أنتجته عصور طويلة متعاقبة، وبتسرب فطريات ضارة إلى صميم النسيج المجتمعي من أعراب العجم الجفاة الذين داسوا بأقدامهم القذرة المجتمع الإسلامي العباسي المتحضر المزدهر في عهد الخلفيتين الرشيد والمأمون الذي يمثل الذروة الحضارية، فكريا واقتصاديا وعمرانيا، والذي كان من الطبيعي أن يتواصل ليتواصل النماء، والانتقال إلى مراحل أعلى، لولا ذلك العامل القسري الذي أعاده خطوات واسعة إلى الخلف في عهد المعتصم والمتوكل ومن جاء بعدهما، من أسباب البلاء في تاريخ الأمة مما خنق النهوض وصدق الله العظيم إذ يقول: "يا أيها الذين ءَامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يالونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من اَفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" [اَل عمران، 118].
وشروط الحياة الراقية والاستمرار يستمدان من منظور متسع الأفق يعرف كيف يوازن بين أصداء التاريخ والواقع، والمعادلة بين القديم والجديد والمواءمة بين الأصالة والحداثة، وما بين الذاتي والغريب، والشغف بالمستقبليات، والسعي إلى التجديد من خلال الاستمرار لاقتلاع جذور الجهل والفقر والمرض، بالتنوير والتثقيف.
والأمل معقود على نواصي أولئك الذين يطهرون الأجواء بالدموع والعرق، ليشع النور من جديد في ليل الحياة العابسة، لتتلمس الإنسانية التائهة طريقها الشائك في منعرجات صعبة، وإن شئت فالأسرة التي تواجه الخلاء الموحش، كالجندي الذي يستفيد من نتائج الانتصارات والهزائم؛ لأن الباطل لا يصبح حقا بمرور الأيام، ولن يحرر المقهورون في هذا العالم المهزوز، إلا برجال مثل الفاتحين الأولين الذي قال فيهم المقوقس مقالة عندما استمع إلى مبعوثيه العائدين من عند سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه: "هؤلاء قوم لو استقبلوا الجبال لأزالوها، وما مثلهم يغلب من قلة؛ لأنهم كانوا أتقياء يمتلكون علو الهمة، والسعي في مصالح الأمة"، وما بالكم بقوم يقول فيهم الأقباط للمقوقس: "لقد رأينا قوما الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة".
وأنا أحني رأسي احتراما للأسر التي تنهض بأعباء التربية والتكوين للبنات والبنين، ولا تسمح لمحاولات الدس للأفكار الدخيلة والباطلة بين أفرادها، وكشف زيف المبطلين وكيد الملحدين والعابثين، فهم في نظري حماة الإسلام يغارون على الأمة ويحملون لواء الدعوة، ويشعرون بثقل المسؤولية فشمروا عن سواعد الدفاع عن العقيدة ونقض أوهام الواهمين لإنقاذ المجتمعات الإنسانية بالحجج النقلية والعقلية، لتشب عقول الناشئة صافية نقية من كل شائبة تصديقا لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"[1].
ولن ينسحب من المعركة إلا واهن يسقط سلاح الحق من يده، والأسرة المسلمة ليست من هذا النوع المتخاذل، فهي من النوع الذي يسعى إلى الهدف المقصود والوقوف عند الغاية المرجوة، التي تؤكد السماحة والبساطة والوضوح واليقين؛ لأن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم راسخة في قلوبها كالجبال الراسيات، لا تزعزعها عواصف ولا تؤثر فيها الرياح، رسالة بعقيدة تحمل النور في طياتها تشق الطريق إلى القلوب والنفوس بذاتها، وتهدي العقلاء إلى صفائها.
ومتى تنهض الأسر إلى الحياة بعزم وقوة، من أجل ذلك كان قول الأسر الصالحة أنفذ في قلوب البنين والبنات، وأملك لأنفسهم من كل قول وبذلك يستقبلون الوجود بعواطف فياضة تتجلى فيها القلوب الخفاقة، ومنها يلتقي المضاء والذكاء وصفاء القلب والسريرة، وما كان الله سبحانه ليدع البراعم الصاعدة تحت أثقال الحياة، حتى يهيئ لها من يذود عنها ويحتمل دونها الكثير من شؤون الحياة ويضيئ لها ما بين أيديها من شعاب العيش، هذه الأسر هي مرآة الإسلام بل هذه البيوت مثابة للأجيال فيها يتعلمون لأنها مدارس مفتحة الأبواب، والمعرفة من خلالها حق طبيعي لكل إنسان، وهي مركز الإشعاع والعرفان، تحمل بصدق أمانة الدعوة دعوة الحق لتبلغها إلى أهلها وذويها وإلى الدنيا، تبقى منارات الناس أجمعين من المغرب إلى المشرق بالخدمة الطيبة والإخلاص الدؤوب لإنارة درب الحياة: فعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا، فَقَالَ: "طُوبَى لِلْمُخْلِصِينَ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءُ"[2].
--------------------------------
1. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم. ح: 1920، ص: 58.
2. الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا، رقم الحديث: 29.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.