يقول الله تبارك وتعالى في وصف رسوله محمد عليه الصلاة والسلام: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " [اَل عمران، 159]. "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَة" [الاَحزاب، 21]. "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم، 4]. "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ اَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُومِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ" [التوبة، 129]. "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" [الضحى، 5 ]. "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا" [الفتح، 2]. هذا الرجل الذي بنى دولة تفرعت عنها اليوم، عشرات الدول الإسلامية من أقاليم السند إلى المحيط الأطلسي، وأسس دينا يعتنقه اليوم 636 مليونا من البشر يبذلون الأرواح في سبيل نصرته والاعتصام به، وغير وجه الأرض في أنماط حياتها وتفكيرها وقيامها وتشاريعها ونشر العدل يفيء إلى ظله المعذبون في الأرض والمستضعفون، وهز المنابر ورج الحشود بفصاحته وبلاغته وجوامع كلمه، وعلم الناس الفضيلة والرحمة والتعاطف والأخوة، هذا الرجل نشأ يتيم الأبوين فقيرا معدما، وعاش أميا في مجتمع لم يكن فيه من المثقفين أكثر من سبعة عشر رجلا. أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورعاه في فتوته وشبابه، فلم يستمله اللهو، ولا شغله اللهو ولم يذق خمرا، ولم يشهد المجتمعات الماجنة، ولم يسجد إلى صنم، وأقام أربعين سنة بين قومه، قبل النبوة، ليتعرفوا كثيرا في طباعه وخفاياه، فلم يسجل أحد عليه نزوة ولا هفوة. والى جانب الفصاحة وعذوبة الأقوال، وسحر التعبير، كان هادئ الخلق، حليم الطبع ليِّن الجانب، متواضع السلوك، لا يدعوه أحد إلا أجابه. يحب الأطفال ويلاعبهم ويضمهم إلى صدره وكثيرا ما يجعل أولاد عمه العباس صفوفا ويشرف على تسابقهم ثم يقدم الجائزة للفائز ويجلسهم في أحضانه؛ يخدم أهله وأصحابه وضيوفه، ويتولى شأنهم بنفسه، وحدت مرة أن قدم وفد بعث به إمبراطور الحبشة في مهمة لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدب لهم صلى الله عليه وسلم مأدبة تولى الأمر فيها بنفسه فكان يناولهم ويصب الماء على أيديهم، ويبسط لهم الفراش فأخذ منهم العجب مأخذه لما وجدوا من البون الشاسع بين بلاط الإمبراطور، وبيت الرسول، وبين أبهة الملك عندهم، وبساطة الرسول الزعيم إمام المسلمين وقائدهم الأعلى. كما حدث أن جيشه وهو عائد من إحدى الغزوات نزل لذبح شاة من الغنم وإعداد الطعام وتوزعوا العمل فتعهد البعض بالذبح وآخرون بالسلخ وآخرون بالطبخ، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم على كاهله جمع الحطب وهو صعب المنال في صحراء عارية وأيام لاهبة القيض، وحاول أصحابه صرفه عن القيام بهذه المهمة، فأصر على القيام بها قائلا: "إن سيد القوم هوا الذي يضطلع بالعمل الشاق فيهم". لم يرفع يده مدة حياته على امرأة أو عبد، روى أنس الذي خدم الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة عشرة أعوام أن الرسول لم يلمه أبدا على شيء فعله، ولا على شيء لم يفعله. كان يوصي بالخدم والعمال ويدعوا إلى معاملتهم كإخوة وعدم تكليفهم ما لا يطيقون ومساواتهم في المأكل والملبس؛ كان إذا سمع بكاء طفل وهو في الصلاة أسرع في صلاته من أجل أن يسمح للأم بإسكات طفلها. روى أعرابي ممن شهد غزوة حنين أنه كان يلبس نعلين غليظين داس لقلة انتباهه على قدم الرسول فأوجعه وألمه. ومن شدة الألم رد الرسول صلى الله عليه وسلم بسوطه فبات الأعرابي ليلته مهموما لما بدر منه من إيذاء الرسول وإيلامه، ولما كان الصباح أرسل محمد صلى الله عليه وسلم في استدعاءه فأتاه خائفا حائرا ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأنه ووهب له ثمانين نعجة فدية لغضبه لأن سوطته مس إنسانا. ورغم ما هو عليه من فطنة ومعرفة بخفايا النفوس كن محبا للشورى ملتزما بما يشير به المختصون في كل مشاكل الحياة. وقد حدث أن عين في إحدى المعارك الكبرى معسكرا يتأهب فيه الجيش لملاقاة العدو فتقدم منه جندي بسيط وراجعه في الأمر قائلا: "إن كان الله أوحى إليك باختيار هذا المكان فليس علينا إلا الطاعة وإن كان من اجتهادك الخاص فإني أرى خلافه". وبعد أن بسط نظريته الإستراتيجية انضم الرسول إلى رأيه وهو الذي رفع مكانة المرأة؛ فإن كانت أما فالجنة تحت أقدامها، وإن كانت زوجة فهي تعامل بشريعة المودة والرحمة، ويقول القرآن في هذا الصدد: "خَلَقَ لَكُم مِّنْ اَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً" [الروم، 20]. وإن كانت بنتا فهي تستشار في أمر زواجها، ويحرم أن يتضايق الرجل إذا بشر ببنت فضلا عن الاعتداء على حياتها بالوأد والإهمال؛ كان نظيفا معطرا جميل المظهر حسن الهندام وكان يدعو إلى ذالك، ويجعله من شعائر الإيمان "النظافة من الإيمان" وكان يتطيب بالمسك، ويحرق في بيته الصندل والكافور والمسك، ويقص من شعره ويسرح شعر رأسه ولحيته ويمشطه بمشط من العاج ويتعهد دائما أسنانه بفرشاة من عود الأرك، وكان يصلح من شأنه بالنظر في إناء مملوء ماء ليرى صورته ويسوي ما يحتاج التسوية فيها. وكان يمضي إلى السوق لشراء لوازم بيته، ويحمله بنفسه فإذا تسابق أصحابه المؤمنين ليتولوا حمله ردهم بلطف قائلا: "صاحب الشيء أحق بحمله". وكان شديد العطف على الحيوانات والدواجن وهو القائل: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها.. ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض". وهو القائل أيضا: "بينما رجل يمشي في يوم شديد الحر إذا هو بكلب يلهث الثرى من العطش فنزع خفه تم نزل إلى البئر فملأه ماء ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له". وكان حريصا على أن يكون المستوى الأخلاقي عند المسلمين رفيعا جدا، وهو القائل: "الدين الأخلاق" "وإنما بعثت متمما لمكارم الأخلاق". وطلب منه يوما أن يصلي على امرأة من أجواره توفيت ووصفت له بأنها كانت تقوم الليل وتصوم النهار، وحين سأل عن أخلقها، قيل له: إنها سيئة الخلق، فرفض أن يصلي عليها، وقال: "بشروها بأنها من أهل النار". واستطاع أن يحدث ثورة حقيقية في الأخلاق، وميزان التعايش بين الناس، إذ حول الناس بسرعة عن الحسد والحقد والغضب والكذب وإخلاف الوعد والتعدي والفاحشة والشر إلى الصفات المقابلة من الكمال والرفعة والسمو الإنساني. كانت له ربيبة تخدمه في البيت فدعاها يوما فإذا هي منصرفة عنه، تلعب مع فتيات الحي وذهبت أمها تدعوها في غضب وخوف ولما حضرت كان بيد الرسول صلى الله عليه وسلم مسواك وهو عود من الأراك رقيق لا يتجاوز طوله راحة الكف فقال لها: "لولا أني أخاف القصاص من الله لمسستك بهذا السواك". جريدة ميثاق الرابطة، العدد 833، الخميس 14 ربيع الأول، 1419ه / الموافق 9 يوليوز 1998 م، السنة الواحد والثلاثون.