نشأ علم التصوف، كتجربة روحية، على أيدي علماءَ عاملين حفظَ الله بهم هذا الدين، ووضعوا له مبادئ وقواعد دقيقة، وضوابط وشروط صارمة، شأنه شأن بقية العلوم الشرعية سواء بسواء. ومن بين الذين ألّفوا في علم التصوف ومبادئه ومعارفه: العلامة الفقيه عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي (990-1040ه)، وهو من علماء وفقهاء القرويين، ويُعدُّ كتابه المنظوم "مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف" مرجعا مُهِمّاً عند أهل السلوك، حيث اشتهر وعُرف به داخل المغرب وخارجه، وتلقته الأمة بالقبول، واعتنى به الناس حفظا وشرحا وتعليقا وختما. وقد حرص ابن عاشر بإجماع علماء المغرب عموما على تحصيل علم التصوف على "طريقة الجنيد السالك"، فألزموا أنفسهم وألزموا غيرهم به، حيث جعلوه عندهم من الثوابت التي تمتزج فيها أعمال الجوارح بأعمال القلوب، قال رحمه الله: وبعد فالعون من الله المجيد في نظم أبيات للأمي تفيد في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك وإذا ألزم بها الأمي، فالعلماء بها ألزم، فافهم. وفي ما يلي شرحٌ مختصرٌ لمنظومة "مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف" لَعلَّهُ يكون للقلوب دواء، وللعقول اهتداء. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. توطئة: التصوف والعلوم الإسلامية التصوف مشرب روحي ومنهج إسلامي أصيل، فهو العِلم "التجريبي" الذي يهتم بالارتقاء بالسلوك الإنساني من مجرد الاكتفاء بالرسم والشكل في الدين إلى تنوير القلوب، أي إلى تحسين الأداء الديني للمسلم قلبا وقالبا؛ لذلك قال إمام دار الهجرة الإمام مالك: "من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق"[1]، في إشارة إلى ضرورة مرافقة المعاني القلبية، التي هي من المجالات التي يبحثها علم التصوف، لأعمال الجوارح التي هي من المجالات التي يبحثها علم الفقه. وقال الإمام الشافعي في ديوانه[2]: فقيهاً وصوفيّاً فكُن ليسَ واحداً فإني وحقِّ الله إيَّاك أنصَحُ فذاك قاسٍ لم يذق قلبُه تُقى وهذا جهول، كيف ذو الجهل يصلحُ فالتصوف إذاً هو "فقه القلوب" و"علم السلوك" إلى مراتب القرب والوصول، فهو إعادة بناء الإنسان وربطه بمولاه في كل فكر وقول وعمل ونية، إنه التقوى في الحس والمعنى، ومراقبة الله في السر والعلن؛ وهذا المعنى التكاملي قد مُورس في العهد النبوي والصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مما جاء به الوحي ونزل به القرآن وحثت عليه السنة؛ فهو مقام الإحسان من الدين، ومقام التقوى في القرآن، ومقامُ الربانية في الإسلام. ومصطلح التصوف حادث[3]، أما مادته فقديمة قِدم الكتاب والسنة، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ فمن المعلوم أنّ العلوم الإسلامية كلها لم تكن معلومةً بمُسمّياتِها وألفاظها وتفصيلاتها في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحابتِه وإنما كانَ العلمُ إجمالاً، وما ماهيتُها ومضمونُها ومَدارُها إلاَّ الدينُ الكامل؛ ففي زمنِ الصحابةِ لمْ يعرفِ الناسُ علومَ النحوِ والبلاغةِ والبيان، ولا علومَ الفقهِ وأصولَه، ولا علوم القرآن وعلوم التوحيد والحديث وغيرها،... وإنَّما دَعَتْ أحوالُ الناسِ إلى ظهورِ هذهِ العلوم على أيدي علماءَ عاملين حفظَ اللهُ بهمْ هذا الدين، وما لفظُ التصوفِ إلاّ اسمٌ لِعِلمٍ نشأَ كذلك عندَما دعَتِ الحاجةُ إلى تخصيصِهِ باسمِهِ ورسمِهِ. ففي زمن النبوة، كان للممارسة الدينية حالُها القلبي والأخلاقي والسلوكي، كما دلّت على ذلك عدة نصوص، وضعُف على مرِّ الزمن هذا الحال الذي يُعتبر المظهر الأعظم لهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومِن ثَمَّ وُجد هذا العلم (التصوف) لإرجاع الأمرِ إلى نِصابِهِ في قضيةِ العمل والحال القلبي للمسلم، سَمّهِ: تصوفا، أو تزكيةً، أو عِلمَ السلوك، أو عِلمَ التربية، أو ما شِئت... هي قضية مصطلحات ولا مُشاحةَ فيها. فلا قيمة للعِلم، ولا خير في العمل إذا لم تُغرس التربية والتزكية والسلوك في القلوب والوجدان، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء للتزكية وللتعليم معاً. قال الشيخ زروق في قواعده: "التصوف عِلمٌ قُصِدَ لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول (علم التوحيد) لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك"[4]. ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ اللبيب لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليكتشف الفرق بين التصوف السني الذي نتكلم عنه، والذي انتهجه وتبناه السلف الصالح، والذي لا يتحقق إلا بالأخذ عن العارفين بالله المتحققين، وبين "تصوف" المُدّعين والدخلاء المزيفين الذين أدخلوا فيه ما ليس منه، أو "التصوف" التقليدي المعروف الذي يغلب عليه طابع الشكل والرسم... وإنما نعني طريق السالكين المتحققين[5]، كما حدده إمامهم أبو القاسم الجنيد بقوله: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"[6]. يُتبع ---------------------------------------- 1. انظر: "قواعد التصوف" للشيخ زروق، القاعدة 4، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة 3، 2007، تحقيق: عبد المجيد خيالي، ص: 22، وحاشية العدوي على شرح الزرقاني 3/195، ومرقاة المفاتيح 1/478 لملا علي القاري. 2. "ديوان الإمام الشافعي"، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة 5، 2008م، ص: 42-43. 3. قال ابن خلدون عن التصوف في المقدمة : "هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية". المقدمة، طبعة دار صادر، بيروت، ص: 356. 4. "قواعد التصوف" للشيخ زروق، القاعدة 13. 5. يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: "التصوف في نفسه علم شريف، وأن مداره على اتباع السنة وترك البدع، وعلمت أيضاً أنه قد كثر الدخيل فيه من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع"، ("تأييد الحقيقة العلية"، الطبعة 3، مكتبة القاهرة، 2008م، تحقيق: عبد الله بن الصديق الغماري، ص: 57). 6. "تاج العارفين"، الطبعة 3، دار الشروق، 2007م، تحقيق: سعاد الحكيم، ص: 102.