نتناول في هذا الجزء نماذج تطبيقية لمراعاة المالكية لمفاهيم الغاية، العدد، الحصر واللقب في فروعهم الفقهية: 1- مفهوم الغاية - حكم الصوم والفطر بعد رؤية الهلال: عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول لله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم فاقدروا له"[1]. فقد قيد الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم في رمضان والفطر بعد نهايته برؤية الهلال، فكأنه قال: اربطوا عبادتكم برؤيته ابتداء وانتهاء[2]؛ وهي الغاية التي قيد بها الحكم، فإذا رؤي الهلال، فحسب مفهوم الغاية فقد وجب الصيام ووجب الفطر[3]؛ لأن ما بعد الغاية بخلاف ما قبلها، وهذا ما نص عليه السادة المالكية في تحريرهم لهذا الحكم. - حكم بيع الرطب بالرطب متماثلا: في المسألة حديث النبي الكريم: "لا تبايعوا الثمر[4] بالثمر حتى يبدو صلاحها"[5]؛ نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالثمر كما هو منطوق النص، ولكنه قيد ذلك بغاية معينة وهي بدو صلاحه، ويستمر حكم النهي إلى غايته التي قيد بها، فإذا بدا صلاحه، كان الحكم غير الحكم، قال القاضي عبد الوهاب يبين المسألة: يجوز بيع الرطب بالرطب متماثلا، خلافا للشافعي، لقوله عز وجل: "وأحل الله البيع وحرم الربا" [سورة البقرة، الآية: 275]، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبايعوا الثمر بالثمر حتى يبدو صلاحها" وما بعد الغاية يخالف ما قبلها[6]. 2- مفهوم العدد - عدد التكبير للجنازة: روي في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات"[7]؛ فهذا الحديث يفيد بمنطوقه "أن التكبير لصلاة الجنازة أربع"[8]؛ ويفيد بمفهومه المخالف عدم الزيادة والنقصان على العدد المذكور، ولهذا قال ابن عبد البر (463ه) -وفيه التكبير على الجنازة أربع لا غير-[9]؛ وهذا هو شأن العبادات التي تحدد مقاديرها بعدد معين، وقد أشار مالك إلى عدم الزيادة على العدد المذكور في الحديث، وذلك إذا صلى مع الإمام يكبر خمسا على مذهب آخر[10] فيقتصر المأموم على أربع تكبيرات[11]، ونفس الأمر يتعلق بالنقص من العدد. - حكم إطعام أقل من ستين مسكينا في كفارة الظهار: قوله تعالى: "فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا" [سورة المجادلة، الآية: 4]، في هذه الآية الكريمة أن من عجز عن تحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار، فيلزمه حسب منطوقها إطعام ستين مسكينا مدّا، والاقتصار على العدد المذكور والمنصوص في الآية، يفيد عدم الإجزاء في إطعام أقل من ذلك وإلا لم يكن للتقييد بالعدد من فائدة، ومنه، أنه "لا يجزئه أن يطعم ثلاثين مسكينا مدين مدين"[12] وهذا مما استنبطه علماء المالكية من الآية عن طريق مفهومها المخالف، أما الزيادة على العدد المذكور، فلا أعتقد –والله أعلم– أن فيه إهدار لأحكام الشريعة بل هو من التكثير في الأعمال، فأولى أن يقبل من صاحبه. 3- مفهوم الحصر - حكم رهان السبق في غير الخف والنصل والحافر: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"[13] في هذا الحديث أنه "لا يجوز السبق إلا في ثلاث: في خف وهو البعير، وحافر وهو الفرس، ونصل وهو السهم"[14] وبما أن الحديث حصر السبق على وجه الرهان في هذه المذكورات، "فيكون حراما فيما عداها"[15] قال مالك والشافعي: -ما عدا هذه الثلاث فالسبق فيها قمار-[16] وقد علم هذا بمفهوم المخالفة، لكن الحكم يختلف إن كان السبق مجانا وليس على رهن، فإنه يجوز في غيرها "كالمسابقة على البغال والحمير والفيلة"[17]؛ لأن الحديث نص في السبق على وجه الرهان. وأمثلة الحصر كثيرة، منها مثلا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤذن إلا متوضئ"[18] في حصره الآذان في طهارة الوضوء[19]. 4- مفهوم اللقب مفهوم اللقب يشمل أسماء الأشخاص والأجناس جامدة ومشتقة، والذي عليه جمهور المالكية أن اللقب الجامد وأسماء الأشخاص لا مفهوم لها، ولم يشذ من هذا إلا ابن خويز منداد، أما أسماء الأجناس المشتقة [كالطعام والماشية ...]، فقد عمل بمفهومها في المذهب، وفيما يلي فروع تشهد لذلك: - حكم إزالة النجاسة بغير الماء: قوله صلى الله عليه وسلم: "صبوا عليه[20] ذنوبا من ماء"[21] أمره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بإزالة النجاسة بالماء، دال على أن الخل مثلا بخلافه؛ لأنه المفهوم من تقييده (بالماء)، ورغم أن المذهب أن النجاسة لا تزول إلا بالماء لكنهم يصرحون أن "الماء اسم جنس فهو مفهوم لقب، ليس بحجة"[22] أو كما قال ابن العربي: "لأن الماء لقب ولا دليل للألقاب"[23]، وهذا من الأمثلة التي تشهد على تطبيقهم للقاعدة في عدم الاستدلال بمفهوم اللقب الجامد. - بيع غير الطعام قبل القبض: قوله عليه الصلاة والسلام: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" يقول القاضي عبد الوهاب في حكم المسألة: -كل مبيع متعين لا يتعلق به حق توفية، فبيعه قبل قبضه جائز، من أي الأصناف كان من العروض والحيوان والرقيق والمكيل والموزون سوى الطعام والشراب...- فدليلنا قوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" [سورة البقرة، الآية: 275]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" فدل أن غيره بخلافه[24]، ولهذا قال صاحب أحكام عقد البيع في الفقه المالكي: "وأفاد الحديث بمفهومه أنه لا يمتنع البيع إذا كان المبيع غير طعام كالملابس والأموال الاستعمالات المختلفة؛ لأن قوله: "من ابتاع طعاما" مفهم أن غير الطعام يختلف عنه في الحكم"[25]، فلفظ الطعام اسم جنس مشتق يومئ إلى الصفة من حيث قبوله التعليل، والأساس الذي من أجله يفرق المالكية بين الصفة واللقب هو عدم قابلية هذا الأخير للتعليل والله أعلم. يتبع بحول الله ------------------------------------------ 1. البخاري كتاب الصوم باب قول النبي إذا رأيتم الهلال عن ابن عمر، ومسلم كتاب الصيام باب 2 رقم الحديث 3 عن ابن عمر ومالك كتاب الصيام باب ما جاء في رؤية الهلال للصوم والفطر في رمضان حديث رقم:1. 2. شرح الزرقاني، 2/155. 3. الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ابن عبد البر، 1/334. 4. الثمر بالمثلثة: الرطب والتمر بالمثناة: اليابس. أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك، التهامي كنون ص: 313. 5. البخاري كتاب البيوع إذا باع الثمار عن ابن عمر، مسلم كتاب المساقاة، باب وضع الحوائج، مالك كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها برواية أخرى. 6. الإشراف، 1/260. 7. البخاري كتاب الجنائز باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه ح 1245، مسلم، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة حديث: 1245، ومالك كتاب الجنائز باب التكبير على الجنائز حديث: 14. 8. شرح الزرقاني، 2/58. 9. فتح المالك، 4/287. 10. وممن يقول: إن تكبيرات الجنازة خمسا: ابن أبي ليلى وجابر بن زيد. انظر بداية المجتهد، 1/347. 11. فتح المالك، 4/287. 12. أسهل المدارك، 1/423. 13. النسائي كتاب الخيل باب السبق عن أبي هريرة، الترمذي كتاب الجهاد باب الرهان والسبق. 14. النسائي كتاب الخيل باب السبق عن أبي هريرة، الترمذي كتاب الجهاد باب الرهان والسبق. 15. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 9/79. 16. فتح المالك، 6/9. 17. الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل، أبو البركات الدردير، 2/209. 18. الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الآذان بغير وضوء. 19. انظر حكم المالكية في المسألة، بداية المجتهد، 1/148. 20. روي أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فبايعه وصلى ركعيتن ثم ما لبث أن قام فشج يعين فرج بين رجليه، فبال في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الحديث). انظر أحكام القرآن لابن العربي، 3/445. 21. الحديث رواه البخاري مختصرا في الوضوء في باب صب الماء على البول في المسجد عن أبي هريرة. 22. الفروق للقرافي، 2/38. 23. المحصول في علم الأصول، 2/213. 24. الإشراف، 1/267. 25. محمد سكحال الحاجي، ص: 298-299.