قال الله تباركت أسماؤه: "أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ" [سورة العلق، الآية: 14]؛ وقال جل شأنه: "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا" [سورة النساء، الآية: 168]. حقيقة الدين، ورأس اليقين: حفظ السر مع الله عز وجل، ومراقبة الحق على دوام الأوقات. كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى". وروي أن شيخا من العلماء خرج من بيته؛ عليه سيما الصالحين، فمرت به امرأة بغي؛ امرأة مشهورة في المدينة بفسقها وفجورها وابتعادها عن الله تعالى، فأعرض عنها، فقالت له: يا فلان، أنا ظاهري وباطني سواء، ليس لدي ما أخفيه... العالم كله يعرفني، ولكن أنت أيها الرجل المتدين الذي عليك سمت الصالحين والورعين: ترى هل باطنك مثل ظاهرك؟ هل أنت في السر مثلما أنت في الجهر والعلن؟! الحق أن الرجل فوجئ بهذا السؤال المباغت المزلزل، وقفل راجعا إلى بيته، ومكث مدة يفكر في أمره. والحقيقة -أيها الأفاضل- أن هذا السؤال يستحق أن يطرح على كل أحد؛ وهو: هل نحن في السر مثلما نحن في الجهر يا ترى؟ هل ظاهرنا مثل باطننا؟ هل ما نُشعر به الناس من انطباع بأننا متدينون، وصالحون، ونخاف الله تبارك وتعالى، له ما يصدقه في باطننا، وحقيقة أنفسنا، وأعمالنا وأحوالنا؟ قال محمد بن علي الترمذي: "اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه". وكان بعض الآباء يوصي ابنه قائلا: "يا بني كن في الظاهر عندما تأتي ربك يوم القيامة، يتبين الناس والملائكة والخلائق أجمعون؛ أن باطنك كان أفضل من ظاهرك". الناس في هذا الباب أيها الأكارم ثلاثة أصناف: صنف استوت سريرته وعلانيته، وباطنه مثل ظاهره؛ فهذا لا إشكال فيه. وصنف علانيته حسنة لا غبار عليها، ولكن حين يرفع الغطاء، وتنكشف الحقائق، وتبلى السرائر يُرى أن باطنه كان مخالفا لظاهره؛ فيتبين الناس حقيقته، وحقيقة أعماله... ومشكلة هذا الصنف أنهم كانوا يختانون أنفسهم، ويخادعون أنفسهم؛ لأنهم لم يكونوا صادقين مع أنفسهم، ومعلوم أن التحلي بشرف التقوى والفضل، والسمو الأخلاقي يتطلب أولا فيما يتطلب التزاما مطلقا ألا يكذب المرء على نفسه. هذا ركن أساس ينبغي أن يفهمه المتدينون في المقام الأول... ومن هنا يبدأ الدين الحق، فالإنسان إذا كان يكذب على نفسه، فلا بد أن يكذب على الله وأن يخادعه، وبالأحرى أن يكذب على الناس، ولذلك قال سبحانه: "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يُكَذبُونَ" [سورة البقرة، الآيتان: 9-10]. وروى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤَمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَاسٍ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا، وَاسْتَنْشَقُوا رِيحَهَا، وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، نُودُوا: أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا، لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهَا، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ، وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِكَ، كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا؟ قَالَ: ذَاكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقَيْتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخلَافِ مَا تُعْطُونِي مِنْ قُلُوبِكُمْ، خِفْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَخَافُونِي، وَأَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ الْعَذَابِ مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ الثَّوَابِ" [رواه الطبراني، وفيه مقال]. وفي بعض الكتب المنزلة: "قال الله تعالى: إن لم تعلموا أني أراكم؛ فالخلل في إيمانكم، وإن علمتم أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟". وقال مالك بن دينار يقول الله عز وجل: "إنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انثنت أصلابهم من خشيتي". ومن أعذب ما قيل في هذا المعنى: إذا ما خلوت الدهر يوم فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب وأختم هذا الحديث بذكر الصنف الثالث وهو صنف من الناس يأتي يوم القيامة كانت علانيتهم حسنة: يصلون، ويصومون، ويتصدقون؛ ولكن عندما تنكشف الحقائق، وتبلى السرائر؛ يتبين الناس والملائكة والخلائق أجمعون أن سريرتهم كانت أفضل من علانيتهم، وكانت أعمالهم المستترة أفضل من أعمالهم الظاهرة، وهذا هو الفوز الكبير، والفضل العميم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. نسأل الله تعالى بمعاقد العز من عرشه، ومنتهى الرحمة من كتابه أن يجعلنا منهم آمين والسلام.