هو يوسف بن علي الصنهاجي أحد أعلام الزهد والصلاح بحاضرة مراكش حيث ولد وقضى معظم حياته بها... ونجهل تقريبا كل شيء عن ولادته ونشأته نظرا لسكوت المصادر التاريخية عن ذلك.. ذكر De Castries في كتابه Les sept patrons de Marrakech أن سيدي يوسف بن علي سُمي بصاحب الغار؛ لأنه كان يتعبد بغار في حارة الجذمى بالقرب من باب أغمات، وكانت تسمى أيضا برابطة الغار. ولازال هذا الغار موجودا إلى اليوم في ضريح سيدي يوسف بن علي وبه دفن، ويمكن الدخول إليه عبر درج صغير، أما التابوت الظاهر للعيان بوسط الضريح فهو امتداد رمزي للقبر الموجود بداخل الغار.. نجهل الشيء الكثير عن دراسة سيدي يوسف ونشاطه العلمي والتربوي وطبيعة ما يعلم وما يدرس بالزاوية ونوعية نشاطه، فقد كان اهتمام المصادر مركزا على إصابته بالجذام حتى لقب بالمبتلى، وأصبح يضرب به المثل في الصبر إلى حد تشبيهه بالنبي أيوب، ونظرا لموقف يوسف من مصابه رُفع قدرُه عند العامة والخاصة، فاعتبر من أركان الخير والصلاح بمراكش وعُدّ من سبعة رجالها. وفي القصيدة العَيْنِية حول سبعة رجال مراكش المنسوبة للعلامة أبي الحسن اليوسي تبدو شهرة سيدي يوسف بادية، يقول الشاعر: بمراكش لاحت نجوم طوالعُجبال رواس بل سيوف قواطع فمنهم أبو يعقوب ذو الغار يوسفإليه تشير بالأكف الأصابع ونجل أبي عمران عياض الذيإلى علمه في الكون تصغي المسامع وبحر أبي العباس ليس يخوضه سواه كريم لا يزال يمانع ونجل سليمان الجزولي فضله شهير ومن يدعو إليه يسارع وتبّاعُهم بحر الكرامة والهدىوسيدنا الغزواني نوره ساطع أبا القاسم السهيلي أضف لهمإمام التقى والعلم بحره واسع وانفرد الإفراني بخبر يفيد أن أبا مدين شعيب بن حسين الأنصاري دفين العُبّاد بتلمسان عام 594ه الموافق ل1197م هو عم يوسف ابن علي، ولم يذكر مصادره في ذلك. كما أن باقي المصادر لم تشر إلى هذه القرابة (حسن جلاب، سبعة رجال مراكش). قال صاحب "التشوف" عن سيدي يوسف بن علي: "تلميذ الشيخ أبي عصفور. كان بحارة الجذماء، قبلي حضرة مراكش وبها مات في شهر رجب عام 593 ه، ودفن خارج باب أغمات عند رابطة الغار.. واحتفل الناس لجنازته، وكان كثير الشأن فاضلا، زرته مرات ورزقني الله منه محبة ومودة، وكان صابرا راضيا، سقط بعض جسده في بعض الأوقات فصنع طعاما كثيرا للفقراء شكرا لله تعالى على ذلك" (التشوف، ص312، ط 2، 1997). أخذ الطريقة عن شيخه أبي عصفور يعلى بن وين يوفّن الأجذم، واحد من أجل مشايخ مراكش وسادات العارفين في وقته، توفي عام 583ه/ 1187م. وأبو عصفورهو تلميذ أبي يعزى يلنور بن ميمون المتوفى عام 572ه/ 1176م، وهو شيخ العارف أبي مدين الغوث. ويبدو من خلال هذا السند العلمي والتربوي أن سيدي يوسف بن علي ينتمي إلى سلسلة مباركة مشكلة من أقطاب الخير والصلاح في هذا البلد الطيب، ويكفي أن يكون شيخ شيخه هو أبو يعزى يلنور ليجعلنا ندرك بعض أبعاد شخصيته ووجوده.. توفي يوسف بن علي الصنهاجي عام 593ه/ 1196م ودفن خارج باب أغمات برابطة الغار، إلى جانب شيخه أبي عصفور يعلى بن وين يوفن المتوفى عام 583ه/ 1187م، والشيخ أبي عمران الهسكوري الأسود المتوفى عام 590ه/ 1193م. وكانت هذه الرابطة حارة للجذمى بمراكش قبل أن تنقل خلال العصر السعدي إلى الحي المسمى حاليا بالحارة خارج باب دكالة.. ويندرج وجود حارات للجذمى في بعض الحواضر المغربية ضمن مشروع صحي/ اجتماعي دشنه الموحدون وتطور في ظل الدول اللاحقة.. فهذا ياقوت الحموي في "معجم البلدان (ج 6 ص 331) يذكر حارة الجذمى بمدينة فاس (ربض الكيفان) التي أصبحت فيما بعد مقر الصفايحية والنجارين والبنائين... وقد خصصت الدولة المغربية لهؤلاء المصابين، حارات خارج أسوار المدن، عرفت بحارة الجذمى.. في مدينة فاس، مثلا، كانت حارتهم تقع خارج باب الخوخة "ليكون سكناهم تحت مجرى الرياح الغربية، فتحمل الرياح أبخرتهم ولا يصل أهل المدينة منها شيء. وليكون تصرفهم من الماء وغسلهم بعد خروجهم من البلد(ابن أبي زرع، روض القرطاس؛ الجزنائي: جنى زهرة الآس)، أما في مراكش فكانت بباب أغمات، حتى "لا يمازجون الحضرة" (ابن الزيات التادلي، التشوف). ولست هنا أتفق مع ما أورده الأستاذ محمد جنبوبي في كتابه "الأولياء في المغرب، 2004، ص 181) الذي يقول عن سيدي يوسف بن علي: "هناك في المكان الذي رمى فيه المجتمع مجذوميه، اختار هو أن يعيش بين الملفوظين المطرودين من الحياة المرميين في حي انتظار الممات، يسامرهم ويؤانسهم ويتقاسم معهم كل شيء.. حتى الداء..."، ذلك أن حارات الجذمى خلال العهد الموحدي كانت تجسد جانبا من الرعاية الصحية والاجتماعية ولم تكن مكانا لرمي المجذومين.. لقد كانت هذه الحارات تخضع لتنظيم دقيق، ويصف الحسن الوزان (ليون الإفريقي) إحداها- خلال العصر السعدي- في كتابه "وصف إفريقيا" ج1، ص 278): "كانت تحتوي على مائتي دار تقريبا، ولهم رئيسهم الذي يجمع دخل الأملاك العديدة الموقوفة عليهم لوجه الله من طرف الأعيان وغيرهم من المحسنين، ويقدم إلى هؤلاء المرضى كل ما هو ضروري لهم بحيث لا يحتاجون إلى شيء".. كان مأوى الجذمى بمدينة مراكش في عصر الموحدين خارج باب أغمات "ولم يزالوا هنالك إلى دولة الأشراف السعديين فنقلوهم لغربي مراكش خارج باب دكالة تنكبوا بهم جانب الشرق لجانب المغرب لأمور اقتضت ذلك" (الإفراني، درر الحجال).. ولا شك أن "هذه الأمور التي اقتضت ذلك" شبيهة بتلك التي ذكرها ابن أبي زرع والجزنائي عند حديثهما عن "حارة الجذمى" خارج باب الخوخة بفاس.. بمعنى انخراط هذه السلوكات التدبيرية ضمن رؤية علمية مؤطرة من طرف خبراء كانوا في خدمة الدولة ضمن مشروع "حفظ الصحة العامة"، وهذه قضية تحتاج إلى مزيد بحث وتنقيب.. وعلى الرغم من بعض أحكام القيمة التي نجدها عند هذا المؤرخ أو ذاك حول الجذمى، وموقف الدولة والمجتمع منهم؛ فإن مما لاشك فيه أن تنظيم أحوالهم وتخصيص حارات لهم والسعي في حوائجهم وشملهم بالعناية في كتب النوازل تنم عن رعاية صحية منظمة كان الموحدون يعتبرونها مركزية في سياسة الدولة والمجتمع. ومعلوم أن موضوع الصحة العامة عرف منذ عصر المنصور الموحدي اهتماما بالغا تجلى أساسا في إقامة البيمارستانات والمستشفيات وحارات خاصة بالمصابين بالأمراض المعدية، وعليه ينبغي النظر إلى مسألة "حارة الجذمى" في هذا السياق.. يقول الأستاذ المرحوم الحسين بولقطيب في كتابه: "جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين" (منشورات الزمن، 2002، ص 72-73): "ولعل ما يقوم دليلا على اهتمام دولة الموحدين بالقطاع الاستشفائي إقدام الخليفة المنصور على تشييد مارستان عظيم لعلاج المرضى والمجانين، وقد حظي هذا المارستان باهتمام مؤلفي المرحلة الوسيطية، كما حظي باهتمام الدارسين المحدثين عربا وأجانب". ويورد المؤرخ عبد الواحد المراكشي -المعاصر للموحدين- في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" وصفا دقيقا للمارستان المذكور إذ يقول: "وبنى بمدينة مراكش –يقصد يعقوب المنصور- بيمارستانا ما أظن أن في الدنيا مثله؛ وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه.. وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيها مياها كثيرة تدور على جميع البيوت... وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجا عما جلب إليه من الأدوية وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم، من جهاز الصيف والشتاء؛ فإذا نقه المريض فإن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل.." (المعجب، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت 1998 ص 204). يعلق الأستاذ الحسين بولقطيب على هذا النص النفيس بقوله: "وهكذا، فإن هذا المارستان أو "دار الفرج" كما سماه صاحب كتاب "الاستبصار" بموقعه ومحتوياته، ونظام عمله هو الذي دفع المؤرخ الفرنسي روني ميلي Millet إلى عقد مقارنة بينه وبين مستشفيات أوروبا الوسيطية، فلاحظ أن هناك فرقا شاسعا بين مستشفيات المغرب الموحدي وبين مثيلاتها بأوروبا المسيحية خلال العصر الوسيط، بل تعدى ذلك إلى التصريح بأن مارستان المنصور تفوق حتى على مستشفيات باريس عند بداية القرن العشرين".. يضيف الأستاذ بولقطيب فيما يتعلق بموضوعنا: "وبالإضافة إلى سياسة بناء المارستانات والمستشفيات التي اشتهر بها المنصور؛ فإنه اشتهر أيضا، ببناء حارات لإقامة المجذومين. وكان تشييدها يتم في الغالب خارج أسوار المدن، بعيدا عن التجمعات السكنية، تلافيا لانتشار العدوى. كما كانت الدولة هي المتكلفة بالإنفاق على هؤلاء المرضى..". ثم إن تخليد ذكرى سيدي يوسف بن علي والتأكيد على مدرسة الصبر التي ترعرع فيها بشكل غطى بشكل شبه كلي على جوانب حياته الأخرى، يؤكد في نظري اعترافا واستدراكا في الآن نفسه على ما يمكن أن يكون قد علق بالذاكرة الجماعية من نظرة سلبية "للجذمى" والمصابين عموما بالأمراض المعدية.. إننا إزاء "إعلان وعي" بقيمة تيمة الصبر مجسدا هنا في أبهى صوره في شخصية هذا الرجل الصالح الذي تشبهه كتب المناقب بالنبي أيوب.. قال محمد الصغير الإفراني في "درر الحجال" (ص: 130، 131) عن سيدي يوسف بن علي "الشيخ الذي أظهر ماء السر بعدما غار، وأبدا من مقام الرضى ما استحيي منه كل عارف وغار... أبو يعقوب سيدي يوسف بن علي صاحب الغار..". ومن الفوائد التي نستخلصها من كتاب "درر الحجال في مناقب سبعة رجال" لمحمد الصغير الإفراني "أنه كان في وقت أبي يعقوب رحمه الله أمير بمراكش من أمراء الموحدين سيء السيرة، صعب الشكيمة، فاشتكت من قبح سياسته الرعية، فاتفق رأي أعيان مراكش في ذلك العهد على نزعه واستبداله بغيره، فقيل لهم لو أتيتم أبا يعقوب المبتلى فاستشرتموه في ذلك لم تعدموا من مشورته خيرا.. فقصدوا أبا يعقوب بقصد استشارته. وكان أبو يعقوب يسكن بغار، فإذا طلعت الشمس خرج من غاره وقعد فيها.. فجاؤوه وقد مد فيها رجليه واجتمع عليهما ذباب كثير، فلما دنا منه أعيان مراكش، قال لهم: قفوا هنالك ولا تدنوا مني فيطير هذا الذباب الذي شبع مني فيأتيني ذباب جائع. ففهموا إشارته وأنه يقول لهم: اتركوا هذا الأمير الذي عندكم فإنه قد شبع، وإن خلعتموه وأتيتم بآخر جاءكم جائعا فلا يشبع حتى يؤذيكم..." ومهما يكن من شأن هذه الرواية صحة أو وضعا فإنها تمرر خطابا سياسيا لا يخلو من أهمية في إدراك بعض جوانب "الفكر السياسي" خلال العصر الموحدي وبعده.. وقد علق الإفراني على هذه الرواية تعليقا يبرز وجهة نظره "السياسية" بقوله: "ولا يخفى ما في إشارة أبي يعقوب رحمه الله من اللطائف وكأنه يقول لهم انتم قوم سوء وأعمالكم قبيحة، لا يأتيكم إلا من يسير فيكم سيرة هذا الأمير؛ لأنه ما جار عليكم حتى جرتم أنتم عن الطريق المستقيم".. (درر الحجال، ص 138، 139). أما عن قصة بناء ضريح سيدي يوسف بن علي على شكله الحالي، فيروي محمد الصغير الإفراني في "درر الحجال": "وكان قبره في قعر الغار، ينزل الناس إليه بمدارج في مكان مظلم. ولم يكن عليه من البناء إلا القليل. فلما كان عام أربعة وثلاثين ومائة وألف جاء سيل جارف فدخل الغار والمسجد وهدم بيوت القرية المستندة على الغار، وضاع بسبب ذلك مال كثير، فاحتفل والي المدينة إذ ذاك في البناء على أبي يعقوب، فشيد القبة الموجودة الآن. واحتفر الغار كله إلى أن صار ضريح أبي يعقوب بارزا للشمس، وأراد أن يتركه كذلك، فقيل له لو غيبت ضريحه كما كان قبل لكان أولى، فسقف على ضريحه فوق أعمدة، تم بنى القبة فوق ذلك، فبقي الضريح في سرداب، من أحب النزول له نزل على مدارج ومن أحب زار الضريح الأعلى؛ لأنه مسامت للضريح الذي أسفل السرداب". وما جعلني اعتمد هذه الرواية التي نفيد منها إفادات معمارية متعلقة بضريح أبي يعقوب يوسف هو قول الإفراني صاحب هذه الرواية: "وكنت حاضرا لذلك كله، وأنا ممن قلت للوالي المذكور ما أشير به عليه" (درر الحجال، ص 140).. رحم الله سيدي يوسف بن علي والله الموفق للخير والمعين عليه