كانت العلوم الإسلامية في مَنشئها عبارة عن حوار مع الوحي (النص المؤَسِّس)، وهذا الحوار كان يُعطي أهل العلم القابلية لاكتشاف مجموعة من الآفاق، استنادا إلى المقاربة الآياتية الموجودة في القرآن المجيد، وإلى الإشارات النبوية المنيرة الموجودة في السنة النبوية المطهّرة... ممّا وَلَّد مجموعة من المعارف، ولكن حين كَفَّ الحوار لانشغالنا عنه بأمور أخر، أقل أولوية، رغم أنها لم تكن تخلو من أهمية؛ فإننا بقينا منحسرين في نتائج الحوار الأولى. وإنه ليتعيّن اليوم على المسلمين الكدح لتجاوز هذا الواقع، باستئناف الحوار مع النص المؤسِّس، الكتاب المسطور. ولبيان أهمية الحوار ومركزيته، فلننظر إلى علاقتنا مع الكتاب الآخر، الكتاب المنظور، أي الكون، فلو كَفَّ الحوارُ في الجانب الفيزيائي منه مثلا، لما استطاع الإنسان أن يطيرَ اليوم، أو أن يستكشف الفضاء، ولو أن الحوار كَفَّ في الجوانب الرياضية والتقنية، لما استطاع الإنسان أن يكتسب هذه الأداة الرقمية التي أضحت تُيسِّر له مجموعة يصعب حصرها من الأمور. لقد أُنتجت كل هذه المعارف الكونية لأن الحوار مع الكون استمر، وما كان ليكون بين أيدينا اليوم شيء يُذكر من هذا النتاج المبارك الذي يجعل حياتنا فوق هذا الكوكب أيسر، لو أن هذا الحوار توقف واقتصر الناس على شرح كتابات بيتاغوريس وأرخمديس... وغير هؤلاء من الرواد الأوائل، أو اقتصروا على ما كتبه ابن الهيثم أو جابر ابن حيان وابن زهر، وذيَلوا وحشَّوا على هذه الكتب فقط، دون أن يستمروا في الحوار واكتشاف الأسئلة، والبحث عن أجوبة لها... وحينَ يُتلقّى الجواب يُحوّل بدوره إلى سؤال، تماشيا مع آلية "عمّ يتساءلون" التي جاءت في سورة النبأ. غير أن الحوار لابد له ممّن يمارسه، وهو الإنسان. وإذا حصلت إصابات في الكيان المعنوي والنفسي لهذا الإنسان... فإن الحوار سوف يُعَطَّل جزئيا أو كليا. حينَ مُورست على الإنسان المسلم في بعض الفترات من تاريخنا، مجموعة من الضغوط، والتقليصات، والاستبدادات؛ معنوية كانت أو مادية، وحين استُبدل بواقع "قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك" (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قاله عمر بن الخطاب لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ) أو حين كان الأئمة يشجعون تلامذتهم على القول والإبداء بالرأي في حضرتهم، حين استبدل بهذا الواقع واقع "صه واخرس قاتلك الله"، رصدنا جملة من الإصابات واكبت ذلك، وكان من نتائجها المباشِرة والأخطر، تعطل لا يستهان به للحوار مع الكتابين المسطور والمنظور، تعطل كان من آثاره أن ظهرت في الناس عبارات من مثل قولهم: ليس في الإمكان أبدع ممّا كان! مما وجب العمل الجاد والمستدام لتداركه، وما ذلك على أمة "اقرأ" إن شاء الله بعزيز.