العلوم الإسلامية: قراءة في العوائق المعرفية وثالث هذه العوائق، أن هذه العلوم قد توزعتها نزاعاتٌ مذهبية خلال بعض الفترات، نزاعات قد أدت إلى سجالات لم تكن دائما إيجابية. حيث تحول النص المؤسس إلى حلبة لاقتناص الشواهد والمبررات السجالية والحجاجية التي يُستقوى بها طرف على آخر، أو تعزز بها أطروحة على أخرى ولو على حساب وحدة النص البنائية والسياقية، أو على حساب وظيفة العلم البيانية. الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في توجيه حركة تدوين العلوم والتأريخ لها من جهة، وعلى مناهج ومقررات التربية والتكوين التي تلقتها أجيال متتالية في الأمة مما أضعف فكر الوحدة والتكامل على مستوى بنيات العلوم وعلى مستوى قضايا الأمة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ورابع هذه العوائق، أن هذه العلوم، قد تسربت إليها خلال تاريخنا مناهج دخيلة كالمنطق الصوري الأرسطي–مثلا–؛ ممّا أدخل عليها إفسادا جوهريا من الجانب المعرفي؛ لأن المقاربة الأرسطية تعتبر أن العقل هو المولِّد للمعرفة، في حين أن العلوم الإسلامية تأسّست انطلاقا من النقلة الكبيرة التي في الوحي، والتي تَعرض العقل باعتباره مكتشِفًا لهذه المعرفة ومستنبطا لها، وشتان بين المقاربتين: مقاربة التوليد ومقاربة الاكتشاف والاستنباط! وخامس العوائق، أن هذه العلوم غدت في بعض مراحل تاريخها علوما يغلب عليها التجريد والصورية مما جعلها تنأى كليا أو جزئيا عن هموم ومشكلات الواقع والإنسان، وهي ما جعلت إلا لتيسير حياته وإسعاده في معاشه ومعاده. فتاريخنا متصل من حيث انطلاق هذه الدورة الحضارية الإسلامية بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وبصحبه المنتجبين الذين أسسوا الأنموذج المشكّل للوحدة القياسية؛ أي المعيار وحالة السواء التي وجب ردُّ الأمور إليها في المجالات المعرفية والحياتية. ولاشكّ أن هذا كان وراء كثير من الاختلال في جانب ارتباط العلوم الإسلامية ارتباطا وظيفيا بواقع الإنسان فردا واجتماعا، وهو ارتباط يصعب تصوره إذا لم يتم تجريدُ حالة السواء هذه وتجلية معالم الوحدة القياسية التي تحدثنا عنها، ولم تتم "مَنهَجَة" كيفية التعاطي معهما والاستمداد منهما، بكل الواقعية وكل المرونة اللتين تجعلان هذا الارتباط يجري في إطار منهج قائم على خطوات ثلاث: الخطوة الأولى هي تَمثُّل الوحدة القياسية وحالة السواء، بطريقة علمية بحيث تكون مبوّبةَ وممفصلةً وممنهجة. والخطوة الثانية هي النظر إلى الواقع وتحليله، والوقوف على مقوماته ومكوناته وأدواره وسُلطه ومراكزه.. وحين يعي الإنسان واقعه في استحضارٍ للوحدة القياسية ولحالة السواء، تكون الخطوة الثالثة خطوةً تلقائيةً وهي تجاوز الواقع في استلهامٍ لحالة السواء. مع استدامة الوعي بأن هذه الحالة أيضا كانت محكومةً بواقعها وبأسيقتها في ما عدا الثوابت… يتبع في العدد المقبل…