البشرية بألوانها وأجناسها تشب ثم تنضج وتطيب على الحيوية والقوة، ثم تشيخ وتهرم على الضعف ثم تنطوي الأعمار فيخبو النور والضياء بفراغ الزيت من مصابيحه، وهكذا الأرض يتعاقب عليها الناس، أجيال وأجيال فتقتبس منهم أجيال لاحقة أعمارا تطول وتقصر فتزداد الحياة لتجدد الأجيال قوة، وتزداد بهجتها رغم الزمان جدة وشبابا، وقد يطول عمر أشخاص حتى يراهم أبناؤهم وأبناء بنيهم وأبناء من بعدهم، وتلك سنة الحياة، تكتنف الناس خلالها وهم يتعاقبون على ظهر الأرض أجيالا بعد أجيال كل أيامهم أعياد وأفراح، بالتفاهم والتعارف والتراحم قد تعقبها مآس ومآتم وأتراح بالتنافر والتصارم والتصارع والتصادم أحيانا أخرى. هذه الأجيال في جميع نواحي الحياة وفي جميع أرجاء الدنيا، عليها عبء كبير في هذه الفترة من تاريخ البشرية، عبء لا يقرر مصير أمة فحسب بل مصير الناس جميعا، لذلك أوجه النداء إلى كل آدمي يومن بآدميته وإنسانيته بأن يعود إلى رشده، إنني أوجه هذا النداء لأنني أشعر بالألم والمرارة إذ أرى الحياة البشرية تعود إلى ما كانت عليه من الجفاء والجفاف الإنساني الذي تتنفس عنه نار من سعار القلوب الكاشحة وأغلب الشباب في لهو وعبث لا يحسون ولا يدركون، ليست الحياة العادية بما فيها من عمل وإنتاج ولأننا في أشد الحاجة إلى الحزم والضبط والانضباط، والعمل والكد والإنتاج والتفهم الكامل بمتطلبات عصرنا بمفهومه السليم وعلى الشباب الآن وبإلحاح أن يثبت للدنيا من أي معدن هو؟ وكم درجة صعد هذا الشباب حتى الآن ليضمن لأمته وللناس أجمعين جدية القول والعمل؟ وهل هذا الشباب حقق ذاته حتى يعبر بصدق ومسؤولية عن إنسانيته التي جاءت حاثة عليها تعاليم الإسلام، إنها أسئلة تحتاج إلى مصارحة وجواب صريح. وباسم الله نبدأ مع الشباب هل أدى لأمته وللإنسانية الدين الذي عليه حتى نهنئه ونهنئ أنفسنا بما قال وفعل؟ إن حياة الشباب موائد للفكر متعددة، عليها ألوان مختلفة، إن شئت عاجلتها فورا، وإن شئت أبقيت عليها، منها للعقول غذاء وللأنفس ريح طيب وريحان، ونحن له ولإخوته في دنيا الناس النفع الكثير، وهو يراوح بين الصمود على القديم والنزوع إلى الجديد، يدفع بهم الطموح إلى الأمام وتسنم ما هو أرقى وأسمى، والطموح مطلب حلال، وعليهم أن يسلكوا إليه السبيل الأقوم القويم السليم، وهذا وإن دل على شئ فإنما يدل على أرواح وثابة وآمان شابة محببة، وفي مستطاعه أن يكون سباحا ماهرا بالنزول إلى بحر الحياة الطامي ومعالجة السباحة بطاقاته الصادقة التي لا تقبل بالقليل ولا ترضى بالسباق المحدود، فبإمكانه ان يكون رائدا ممتازا بالمران الطويل وهذا حلم يتحقق بالعصامية وليس كما يظنه البعض من أحلام اليقظة، وبالتدريج يحصل النضوج، ومن مزاولة الشأن الصغير نعالج بمهارة الشأن الكبير، وهكذا رأينا شباب العالم المتقدم تقلب على شتى الأعمال يبدأ بصغيرها ثم ينتهي به المطاف عملاقا في مصاف الكبار، وما يسترعي الانتباه هو اكتشاف مهارات غنت للحياة وغنت لنجاحها قلوب الملايين، وطار الناس وراءها في كل مكان تاركين أوكار الجمود والتحجر إلى فضاءات كلها نور وضياء، ليسمعوا بلابل الحياة الزاهية، وهي تشدو بإنجازاتها على مسرح الحياة الحضارية، وبالتالي إقبار المتهري والبالي، وبالعمل الذي بمستطاعه خدمة السلام العالمي، وما ذلك إلا لأن أعمار الشباب تفسح له المجال لتحقيق أهداف لن تموت من بعدهم، ولأنه استمد قوته من اقتناعه بأنه أداة من أدوات التاريخ، بل هو ظاهرة باهرة وضرورة أوجبتها حتمية التاريخ، يستمد قوته من إسلامه وإنسانيته، وذلك حرصا منه على حرية الإنسان فردا كان أو جماعة حتى لا يقتحمها مقتحم دون إذن من أصحابها الحراس على ثغورها، فهي حرمة من الحرمات، وصدق الشاعر إذ يقول: شباب يمسح الآلام عن ليل أرقناه جاء ليزرع الإصرار في دمنا ويرعاه يدفع زورق النبغاء للفردوس مرساه والحياة الإنسانية لابد لها أن تتنفس فهي كالأحياء جميعا تأخذ من أوكسجين الشباب الهواء لتحرق في خلايا أجسام الناس التالف والضار، فتمتد بذلك الحياة بالقوة والحركة والفكر، وما الدورة البشرية في هذا الوجود إلا كالدورة الدموية، والشباب هو القلب الذي يضخ الدماء لتتوزع على كل آدمي، البدو والحضر، هو البصر وهو الإحساس الذي يهدي المخلوقات في مسالك الحياة، هو الغازل والناسج، ولولا الشباب لما راينا هذا الخليط العجيب من البشر، أناس من كل جنس ولون، يقطعون أولوف الأميال بطائرات وسيارات وبواخر من إبداعات الشباب، أفواجا وزرافات لترى حضارة الإسلام والمسلمين وآثارهم، وليعيشوا لحظات مع تلك الحقبات المتعاقبة من الزمن، التي دخلت التاريخ بأيدي وعقول شابة سادت أحقابا، أناس بإحساس غريب وهم يتجولون بأبصارهم وبصائرهم في أمكنة التاريخ القديم إحساس إنسان القرن الحادي والعشرين، وهو يجد نفسه فجأة يعيش حياة القرون الماضية، فيجتاز أسوار التاريخ الذي يطل عليه من كل شئ يراه حوله. ويعجبني أن أرى وأسمع هذا الشباب الذي شاء بحكمته الدخول في عقد الأمة والتعاون معها في صدق بإقباله على التعمير وإصلاح الأرض، والتعليم وخدمة الإنسانية مما يحبب الناس بعضهم إلى بعض، ويزيد شعورهم بمعاني العزة والكرامة، وجمال التضحية في سبيل الله ونفع الآخرين، ونحن نشاهد أعلام النمو والتمدن ترفرف في سماء الإنسانية شرقا وغربا شمالا وجنوبا، والأراضي تستصلح والمزارع تمتد والحدائق تغرس، والمساجد يعلو سماءها ذكر اسم الله ب "الله أكبر" يتلى القرآن الكريم وتشرح للناس فيها آياته، وتبين لهم أحكام الشريعة بالوسطية والاعتدال وتحكي قصص الانبياء مع الامم الغابرة، فيتعلمون السماحة، فتفتح عقولهم وقلوبهم لنور العرفان، إنه في اعتقادي شباب صاحب فلسفة فاعلة ومنتجة، تدفع بعجلة الحياة إلى مدارج راقية، وفي نفس الوقت صاحب رسالة بانية ودين، امتزجت فلسفته بدينه فرأى الله جل جلاله خالق هذا الخلق، ورآه واحدا أحدا، ورآه وقد تكشف له، رآه من سمو في الخلق والتدبير والتنسيق لا يدانيه شئ، رأى في كل مخلوق ناطق وغير ناطق سائل وجامد، يؤدي غرضا من أغراض الحياة، ورأى هدف الله يمكن الكشف عنه مفصلا بامتحان ما خلق من أشياء. والشباب المسلم هو ذاك الجيل الذي تظهر نزعته بوضوح إلى الوحدة الإنسانية، وكل خروج على هذه الوحدة هو عنده خروج على الدين الإسلامي، واضح في كل تصرف وضوح شخصيته، صفاء في النفس وسمو في المقاصد، تأبى عليه كبريائه أن يضرب بينه وبين الآخرين حجابا من الرياء، سنده هو الحق المجرد والعقل المنزه عن الهوى، سائر بخطى واسعة نحو الأمام يحسن التفاهم مع أبناء قومه ومع الآخرين متجمل بالتعقل والكياسة، يؤكد وجوده وكيانه، معجب بصدق الصادقين وإخلاص العاملين، سلاحه متكئ على العقل في الإقناع لا على العنف والشدة، حكيم عاقل سائر في طريق الفضيلة يغير مجرى الحياة الإنساني ليروي ظمأ الظامئين أينما ارتحلوا وحلوا، حاضر متواجد ناجح لا يتوقع له أحد الفشل. والله من وراء القصد