كلما أمعنا النظر في العالم ترامت حدود المعرفة الإنسانية واتسعت أفاقها، وتجددت الحاجة إلى تنقيح المعتقدات والآراء، لنبذ أو أخذ ما يلاءم المعرفة أو يناقضها، والروح الثائرة كثيرا ما نراها متحدية، تنتقل من أرض الجمود والتحجر، إلى أرض صالحة للإنجاب والتطور، بيقظة الفكر المنور والضمير الذي لا يرضى بالقشور، تناقش وتعارض دون أن يجرح الشعور تعرض ما عندها بقوة الحجة وحسن البيان، سواء رضي المخالف والموافق، ولا مجال للتصنع والمواراة وسلوك كل الطرق المؤدية لتوصيل المعاني إلى أفهام السامعين بسعة المعلومات وقوة التفكير بالخواطر اللامعة والأفكار الموحية والخيال وثاب المشاعر وتحليل الدارس العالم. وهكذا أنصار الأدب والعلم رسالتهم تحرير العقول، والانتصار على الجهل وعون ونصر للدين والحق، والاحتفاظ دوما بحرية الرأي، والعاقل لا يخاف الموت، يجول بفكره لكشف المحجوب المستور بفطنة حادة وبصيرة نفاذة وحديث طري شائق، يعين على كشف الأستار ومعرفة خفي الأسرار، يناقش بالحسنى ضيقي العقول، وكذلك تكون العقول الباهرة النادرة المعززة بالعلم الغزير والحكمة، والسائر في طريق الفضيلة لا يخشى الألم، والرجل الذكي هو الذي ينظر إلى الأشياء بعين العقل، وهذا النوع من الناس هم الذين يعلمون العالم احترام حرية الفكر والإعجاب والتقدير صدقا وإخلاصا وإيثارا لروح التسامح مع كل مخالف. وعن طريق العمل المشترك تشد دعائم الإنسانية وتعزز رفعتها بالتعمير والتعليم وخدمة المجتمع، بما يحبب الناس بعضهم إلى بعض، ويقوي إحساسهم بمعاني الكرامة والعزة وجلال النصيحة وجمال روافد نفع الآخرين، بما تنفتح به العقول لنور العرفان بخطة وحكمة ونظام ثابت وترتيب قائم على تفكير وحساب هما الغاية المثلى في الدقة والإحكام، والأهداف الكبيرة من وراء ذلك، ورسم مركز وقوي لتثبيت دعائم السلم الاجتماعي الإنساني، وفتح الطريق لقوافل الإصلاح، وما لابد منه للحياة، لأنه عصب من أعصاب البشرية، في تؤدة لتحقيق نصر المنطق على التهور والاندفاع، بل يسأل ويستفهم ويستوضح إذا تكلم قصد إلى ما يريد رأسا في عبارة جامعة موجزة، مع حسن الاستماع لما يجري حوله، والاستشارة والأخذ بالرأي الصائب. ولا غرابة أن الخبرة تكتسب بالمران المرتب، والتحديد للعمل المراد القيام به، والإعداد الكامل للمفاجآت التي تحدث، ولأنها تفتح الطريق للأمل الواسع، والأمل الواسع تدبير وتنسيق لا يدانيه شيء عند الإنسان التي تضنيه مصائب الإنسانية وتؤرقه آلامها، وحبه للإنسانية هو الذي يفرض عليه أن يغضي عن سيئات أبناء وطنه؛ لأنه يرى نفسه جزءا لا يتجزأ من مواطنيه، الصراحة في القول، والصفاء في النفس، وسمو المقاصد ووضوح الشخصية والجراءة في حل المشكلات، والصرامة والوضوح، فيأبى أن يضرب بينه وبين الناس حاجزا من الرياء وينأى بنفسه أن يخيط على شخصه ثوبا من النفاق، وتعلق بالأمة يستظل بكنفها ليتهيأ لها التحرر وانتشار حرية الفكر، كاره لأولئك المنافقين الذين يعملون في السر أشياء تخالف مظاهرهم التي يبدونها للناس. وإذا كانت طبيعة الحياة العامة في المجتمعات المنحطة قائمة على النفاق والتزلف وتسمية الأمور بغير مسمياتها، فإننا نستطيع القول استنادا إلى الحق والعقل المنزه عن الهوى، فالإنسان السوي الصادق دائما ما يكون معبرا عن آلام مجتمعه المتألم؛ لأنه يريده مجتمعا محترما يأخذ الأشياء بالعزم والحزم والعمل، يشقي نفسه ويضني ذاته في الدأب سعيا وراء رفعة شأن أمته وكل الناس معها يعيش مع الآخرين وادعا متسامحا مسالما. وحياة الناس تختلف من مكان إلى آخر تبعا لبعدهم من المراكز الحضرية، وتحت ضغط الحاجة يبرز بوضوح معنى الكرم الإنساني الذي يفكر فيه الإنسان الصالح؛ ولأنه في وقت الحاجة ينبوع المصلحين بأرواح تحوم فوق سماء البشرية تبشر باليقظة الكبرى لنموذج عقول جديدة، تدير الحياة بذكاء وحس يتفق وتطلعات الإنسان وحاجاته الجديدة، قصد الأجود لا الأكثر، الكفاح وليس مجرد النجاح، ولن يقوم بذلك إلا الشباب المغامر الجسور، والإداري القادر والزعيم الذي يعرف كيف يقود الرجال، المالك لمواهب تحرس السلم العالمي. وما يفض ختم الزمان إلا شباب مبدع، مكافح منفعل بالأحداث محتك بمصائبها ومتحمل لمآسيها، متذوق لمرها ومستمد من كل ذلك دروسا وأمثالا للخروج من الغموض لاعتلاء المنابر المفتوحة التي هي ملك لكل صاحب رأي، ويوم تلتقي الأفكار تبدأ المعرفة الحقة، حيث لا مكان للوهم والأفكار تمتزج، فيجد هذا الامتزاج صداه في هذا الوجود دقة العلم المؤيد بالتجربة والبرهان، ليحطم القيد حتى ينفسح الطريق لسير الإنسان ليخطو إلى الأمام خطوات أوسع بقدر ما يتسع فكره، الفكر المنسرح الطريق، لا الفكر الذي يتجعد ويتقيد، وبهذا العقل الحر يدخل الإنسان عصر العلم والفن عصر التعقيل، يتخذ من العقل وسيلة تهديه سواء السبيل. وأنا أتساءل: هذه الرياح التي تهب بنا إلى أين؟ هل نحن مع هذه الرياح سائرون؟ أم نحن عنها إلى حيث الزمان الراكد والتغير أبطأ ناكصون؟ نومنا طال وكل أهل الأرض استيقظوا ولحقوا بالركب، وتزودوا بمعارف وفنون من غرب إلى شرق، وما من شك أن معترك الحياة القائم هو إيوان المدنية المعاصرة والعلم والتقنية والعقل هي سر تفوق المتفوقين، ولا يهمنا قصر النظر والإمعان في الهوى والتعسف الذي يختلق نظريات تضع حدودا جبلية من الإسمنت المسلح بين الأجناس البشرية، فتزعم أن نمطا من التفكير وقف على أمة من الأمم، ومعنى هذا أن سائر البشر عقم، وهذه نظريات خاطئة مقرفة، وخلط فاضح متعسف وبعد عن روح العلم، وهي خطر على العلم والعقل، وعلى هذا القبيل لا قيمة موضوعية لها واختراع عنصري مشكوك فيه، والأمة في عصرنا الحاضر عليها أن تعتمد على الشباب العاقل ليكون حافظا للأمانة ناصحا لأهله، أي سيدا قل أن يجود الزمان بمثله، يختار أهل الكفايات من كل فئات الأمة لا تنسيه إياهم عصبية ولا تصرفه إلى سواهم زلف، إذا أردنا لنجم الأمة أن يسطع ويسطع، وآنئذ لن تكون هناك صعوبة تقف أمام العزائم، ولن يكون هناك شيء يرهب لجانب الإيمان بالنفس بعد الله عز وجل لاكتساح الساحة الحضارية. وأخيرا فالفرح بالتخلف والاعتزاز بالفكر المنغلق همجية وتوحش، وكذلك الفرح بالإخفاق والفشل، والرجل العاقل المتمدن هو الذي يسعى جهده للرفع من كرامة الإنسان ويعلم أن إطارها هو الحرية والعلم وهما خلاصة الحضارة البشرية، والتثبيط هو الباب المشئوم الذي دلفت منه على الأمة كل هذا الكوارث، ويوم نسده بشباب عالم ستحل كافة مشاكلنا مع أنفسنا ومع الآخر، والعلم هو الأساس وبدونه جهد ضائع، وعمل لا ينطوي على عقل، والمجتمع الإنساني بدون شباب لا يتكامل ولا ينمو، ولا يسير في مدارج الرقي، وإلى واحة الشباب الوارفة الظلال يأوي المجهدون في صحراء الحياة الجافة العاصفة الناسفة، ففيها الروح والريحان وهو الحاضر والمستقبل، وأنس هذا الوجود ولسان الإنسانية الصادح بكلمة الحق وكنزها الذي لا ينضب، فينبغي ألا يبقى حلقة مفقودة تتجاذبها الأهواء؛ ولأنه العمود الفقري للكائن الإنساني. وبالله التوفيق وهو المستعان