وقد حدد الإمام الشافعي مصادر استفادة الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذا ما أكده في مواضع من رسالته، فقال: "وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس"[1]. وقال: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهةُ العلمِ بعدُ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والآثارُ، وما وصفتُ من القياس عليها"[2]، وقال: "وإنما كان لأهل العلم أن يقولوا دون غيرهم، لأن يقولوا في الخبر باتباعه فيما ليس فيه الخبرُ بالقياس على الخبر"[3]. ويقدم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع، ثم القياس، يقول: "يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، .. وُيحكم بالسنة قد ُرويت من طريق الانفراد، ..ونحكم بالإجماع ثم القياسِ، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلةُ ضرورة؛ لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ، .. وكذلك يكون ما بعد السنة حجةً إذا أَعوَزَ من السنة"[4]. وأما مفهوم القياس عند الإمام الشافعي، فنجد أن له معنى واسعا يشمل عدة طرق من الاجتهاد، وهي: 1. طلب الحكم الشرعي الموافق لما في الكتاب والسنة باتباع الدلائل يقول الشافعي: "والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم، من الكتاب أو السنة"[5]. ويقول: "فالاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلبُ الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائلُ هي القياس"[6]. 2. إلحاق الشيء لشيء آخر لاحتوائه على معناه يقول الشافعي: "أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصاً، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام"[7] ويقول: "أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه"[8]. 3. إتباع ما فيه المعنى الذي بينه الرسول لبعض العبادات المنصوص عليها يقول الشافعي: "إنَّ اللهَ تَعَبَّدَ خَلْقَهُ في كتابه وعلى لسان نبيه بما سَبَقَ في قَضَائِه أنْ يَتَعَبَّدَهُمْ به، ولِمَا شاءَ، لا مُعَقِّبَ لحُكْمه فيما تعبَّدَهم به، مما دلَّهم رسولُ الله على المعنى الذي له تعبَّدَهم به، أو وَجَدُوه في الخبر عنه لم يُنْزَلْ في شَيْءٍ في مِثْلِ المعنى الذي له تعبَّد خلقَه، ووجب على أهل العلم أن يُسْلِكُوهُ سبيلً السنَّةِ، إذا كان في معناها"[9]. 4. إلحاق الفرع بحكم الوقائع الكثيرة لا بحكم ما خصص منها بأحكام خاصة يقول الشافعي: "أن يكونَ أحَلَّ لهم شيئاً جُمْلَةً، وحَرَّمَ منه شيئاً بِعَيْنِهِ، فيُحِلُّونَ الحلالَ بالجُمْلَةِ، ويُحَرِّمون الشيءَ بعَيْنِهِ، ولا يَقِيسُونَ عليه: على الأقَلِّ الحَرَامِ؛ لأنَّ الأكْثَرَ مِنْهُ حلالٌ، والقِياسُ على الأكْثَرِ أوْلَى أنْ يُقَاسَ عليه مِن الأقَلِّ، وكذلك إنْ حَرَّمَ جُمْلَةً وأحَلَّ بعضَها، وكذلك إنْ فَرضَ شيْئاً وخصَّ رسولُ الله التَّخْفيفَ في بعضه"[10]. 5. إلحاق الفرع بأكثره شبها يقول الشافعي: " ..فأمرهم [المحرمين القاتلين للصيد] بالمِثل، وجعل المثل الى عدلين يحكمان فيه.. فحَكَمَ مَن حَكَمَ من أصحاب رسول الله على ذلك، فقضى في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الغزال بعَنْز، وفي الأرنب بعَنَاق، وفي اليَربوع بجَفْرَةٍ.. والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجَفرة في البدن، ولكنها كانت أقربَ الأشياء منه شَبَهَاً، فجُعلت مثله، وهذا من القياس يَتَقَارب تقاربَ العنز والظَّبي، ويَبعد قليلاً بُعْد الجفرة من اليربوع"[11]. ويقول الشافعي: "أو نجد الشيء يشبه الشيءَ منه، والشيءَ من غيره، ولا نجد شيئاً أقربَ به شَبَهَاً من أحدهما: فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهَاً به، كما قلنا في الصيد"[12]. ويقول: "وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا"[13]. 6. استنباط مبني على التعليل يقول الشافعي: "لما كان معروفاً -والله أعلم- عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفةِ الجمال والمنافع: نزَّلها منازِلَها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقَدْره من دية الكفِّ، فهذا قياس على الخبر"[14]. ويقول: "قال: فدلَّ كتاب الله وسنة نبيه أن على الوالد رَضاعَ ولده، ونفقتَهم صغاراً. فكان الولد من الوالد فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يُغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألا يغني نفسه بكسبٍ ولا مالٍ، فعلى ولده صلاحُه في نفقته وكسوته قياساً على الولد"[15]. 7. قياس الكثير على القليل فيأخذ حكمه يقول الشافعي: "فأقوى القياس أن يحرِّم الله في كتابه أو يحرم رسول الله القليل من الشيء، فيُعْلمَ أن قليله إذا حُرِّم كان كثيره مثلَ قليله في التحريم أو أكثرَ، بفضل الكثرة على القلة. وكذلك إذا ُحمِد على يسير من الطاعة، كان ما هو أكثرُ منها أولى أن ُيحمد عليه. وكذلك إذا أباح كثيرَ شيء كان الأقل منه أولى أن يكون مباحاً"[16]. لقد تبين مما سبق أن القياس لدى الإمام الشافعي هو الاجتهاد من أجل إيجاد حكم لواقعة لم ينص عليها، بحيث يكون هذا الحكم مقاربا وموافقا ومشابها لحكم الوقائع المنصوص عليها اعتمادا على ما تتضمنه هذه الأحكام المنصوص عليها من دلائل ومعان وعلل. أو يؤخذ حكم الوقائع الكثيرة من الأمور المتشابهة لها. أو حكم أكثرها شبها لها في حالة تعدد الأمور المنصوصة المتشابهة لها. كما أن القياس يشمل استنباط التعليل من الخبر للتشريع بناء على هذا التعليل المستنبط كشمول حكم القليل للكثيرين، فكل هذه الطرق الاجتهادية يشملها مفهوم القياس لدى الإمام الشافعي الذي يرمي إلى استنباط حكم ما لم ينص عليه من النص لا بطريق التصريح وإنما بطرق اجتهادية غير مستقلة تماما عن النصوص، وكل اجتهاد يرمي إلى إيجاد حكم شبيه وقريب من الحكم المنصوص عليه فيشمله مسمى القياس عند الإمام الشافعي. ويعود سبب تشبت الإمام الشافعي بجعل القياس يشمل كل هذه الطرق الاجتهادية إلى سعيه الحثيث إلى أن يكون الاجتهاد مرتبطا بالنصوص الشرعية غير مبتعد عنها، لذلك يمكن أن نقول بأن كل اجتهاد مرتبط بالنص بطريقة من الطرق فهو قياس في نظر الإمام الشافعي، وبهذا يمكن أن نفسر به رفضه الشديد كل اجتهاد مستقل عن النص كالاستحسان، وهكذا فقد تبين أن القياس عند الإمام الشافعي لا يبعد كثيرا عن معناه اللغوي الذي يدور حول علاقة المشابهة والمماثلة بين المقيس والمقيس عليه، ولم يتأثر بالمفاهيم المنطقية التي نجدها في مباحث القياس في الكتب الأصولية المتأخرة نسبيا عن زمن الشافعي. ————————————————————- 1. إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول لمحمد الشوكاني، المحقق: الشيخ أحمد عزو عناية، الناشر، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1419ه/ 1999م، ج: 2، ص: ص: 34. 2. نفسه، ص: 507. 3. نفسه، ص: 503. 4. نفسه، ص: 598. 5. نفسه، ص: 9. 6. نفسه، ص: 13. 7. نفسه، ص: 34. 8. نفسه، ص: 479. 9. نفسه، ص: 218. 10. نفسه، ص: 217. 11. نفسه، ص: 491. 12. نفسه، ص: 34. 13. نفسه، ص: 479. 14. نفسه، ص: 420. 15. نفسه، ص: 518. 16. نفسه، ص: 512.