فإذا كان الحديث عن الشكل الحديث لحقوق الإنسان وإعلاناته وعهوده ومواثيقه؛ فإن تاريخه أوروبي وغربي بلا منازع، أما فكرة حقوق الإنسان؛ فإنها غير غربية، وما الشكل الغربي الحديث إلا أحد تعابيرها التاريخية، والتي كادت أن تنتهي بعد تدهور الحضارة الغربية[1]، وافتقارها إلى الحقوق الإنسانية العادلة لشعوبها أولاً، وعجزها عن إقناع شعوب العالم بها[2]، بل واستغلالها من قبل الدول الغربية الكبرى سلاحاً حضارياً في انتهاك خصوصيات الأمم والدول الآمنة[3]. وتتابع توجيه "النقد للطابع الغربي لحقوق الإنسان كما صيغت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الأممالمتحدة سنة 1948م، والسيطرة فيها يوم ذاك للغرب، وفي للاتفاقيات التطبيقية لهذا الإعلان التي أبرمت بين الدول الأوروبية، كالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 1950، والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان 1969م، باعتبار أن جميع تلك الصيغ تصدر عن ثوابت الثقافة الأوروبية وتعكس خصوصية هذه الثقافة"[4]. فلا يقال إن الدين لم يكن المرجعية الكلية العالمية التي أسس عليها فلاسفة أوروبا في القرن الثامن عشر عالمية حقوق الإنسان فقط، بل يقال إنه الدافع السلبي لهذا التأسيس، ولذا فلا غرابة أن يبتعد هذا التأسيس عن التأصيل الديني، "وبناء الرؤية الكونية العامة للوجود الإنساني والحياة لتحجيم البعد الروحي للإنسان والإعلاء من شأن البعد المادي"[5]، بل وأن يجعل كل تأصيل ديني هو تأصيل مناقض للتأصيل الأوروبي لحقوق الإنسان، كما أشار إلى ذلك هانتجتون في نبوءته المشهورة في صدام الحضارات، بل واعتبارها مناهضة لإمبريالية حقوق الإنسان، التي يجعلها الغرب أحد الأركان العشرة للدين الأوروبي الحديث، مع مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، وغيرها[6]. إذن كانت النشأة التاريخية للصيغة العالمية المعاصرة لِحقوق الإنسان في أوروبا، وتطبقها كل دولة في حدودها الوطنية فقط، ثم توسع ذلك تدريجياً إلى العالم، إذ "بحلول عام 1680م، ومن أجل انتقاء عدد كامل بطريقة عشوائية، بدأت الصفوة السياسية الأوروبية بوضوح عملية تقسيم عالمهم إلى دول تتألف من أمم، وبعد أن تعبوا إلى حد ما من ذبح بعضهم البعض باسم الدين، اتفقوا على مبدأ السيادة الإقليمية. فكل من يحكم إقليماً معيناً؛ فإن هذا الحاكم يسمح له بتحديد الدين فيه، وفي النهاية كل شيء آخر فيه. وهكذا ظهر مبدأ السيادة الوطني، والذي كان مقصوداً به، كنتيجة للحروب الدينية.. 1648م، أن يؤدي إلى سلام دولي، وكنتيجة ثانوية لذلك؛ فإن مبدأ السيادة الوطنية، استتبع فكرة أن الطريقة التي تعامل بها الدول الذين يقيمون داخل أراضيها مسألة وطنية لا دولية، وما يسمى الآن حقوقاً إنسانياً لم يكن جزءاً من السياسة العالمية من 1648 تقريباً، وحتى 1948"[7]، وبعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأممالمتحدة، انتشر في أنحاء العالم عن طريق الدول التي أيدته، وعن طريق منظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والعالمية. ——————————– 1. تدهور الحضارة الغربية (1/2)، أسوالد اشبنغلر، ترجمة أحمد الشيباني، دار مكتبة الحياة، بيروت، د. ت. ص: 2/381، و2/390. وانظر: سقوط العلمانية، أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، ص: 119. وتهافت العلمانية، الدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، 1399ه 1979م، ص: 7، 46، و107. 2. حقوق الإنسان والسياسة الدولية، دافيد ب. فورسايث، مصدر سابق، ص: 10. 3. الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدكتور محمد عابد الجابري، ص: 140. 4. الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدكتور محمد عابد الجابري، ص: 141. 5. التحيز في الفكر التربوي الغربي، الدكتور فتحي ملكاوي، مصدر سابق، ص: 195. 6. صدام الحضارات، صاموئيل هنتنجتون، ص: 33. 7. حقوق الإنسان والسياسة الدولية، دافيد ب. فورسايث، مصدر سابق، ص: 17.