وفي حالة مصر الآن، أعتقد أن الأمر ليس في حاجة الى طرح الأسئلة (انقلاب عسكري؟ الشرعية؟ ثورة 25 يناير؟ ...)، بقدر ما هو في حاجة الى استخلاص الدروس. لقد طرح العديد من الأسئلة بشأن مصر وتونس واليمن وليبيا والبحرين وسوريا والمغرب أيضا، وعلى مدى على الأقل السنتين الأخيرتين.. إلا أن جلها أسئلة مغلوطة، وحتى الأسئلة الصحيحة والعميقة ظلت الإجابات عنها معلقة ومحدودة. إن الثابت في المعادلة الدولية الراهنة (المتراجحة باللغة الرياضية) هو الهيمنة الرهيبة للامبريالية والصهيونية والرجعية على كافة مناحي حياة الشعوب المقهورة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وما يحصل الآن وما حصل في الآونة الأخيرة، ومن خلال مختلف السيناريوهات المغلفة بلمسات من الديمقراطية، هو تثبيت لهذه الهيمنة وتأكيد لها وبالتالي حمايتها من أي محاولة قد تقوضها أو تشوش عليها.. إن الامبريالية والصهيونية والرجعية تحسب ألف حساب لقوة الشعوب وعظمة الشعوب، وخاصة في اللحظات الثورية، لحظات احتداد الصراع الطبقي، وهو ما يقوي حذرها ويشحذ ترسانتها المتنوعة (السلاح، الحصار، التكنولوجيا، الإعلام، الترهيب، التدجين...) للتصدي لأي انتفاضة ولأي ثورة أو مشروع ثورة، بما في ذلك تجنيد المرتزقة والعصابات الفاشية الظلامية أو الليبرالية، من جهة، وتدجين النخب المثقفة وتوظيفها، من جهة أخرى. وقد يقتضي الحال العصف برؤوس الأنظمة الرجعية المتهالكة رغم تبعيتها المطلقة وولائها غير المشروط (حالة كل من بن علي ومبارك...). وإذ نعفي أنفسنا، على الأقل الآن من طرح الأسئلة، لا بد من استخلاص بعض الدروس الثمينة من التطورات الأخيرة (الأزمة العاصفة) التي تعيشها مصر. ويطفو على السطح درسان بارزان، درسان غير جديدين، إلا أن راهنيتهما تفرض الوقوف عندهما بقوة، وهما: * الدرس الأول: القطيعة مع القوى الظلامية لقد تأكد مرة أخرى (المرة الألف ربما إذا استحضرنا تجارب أخرى خارج مصر) أن أي تعايش سياسي (تنسيق، تعاون، تحالف...) مع القوى الظلامية لن يخدم إلا أجندة ومصالح هذه القوى الرجعية الفاشية، باعتبارها خادمة المشروع الامبريالي الصهيوني الرجعي والمستفيدة منه. وأي انفتاح عليها، وبأي شكل أو معنى، لا يعدو أن يكون سوى رهانا خاسرا (الأمل المستحيل!!)، وسيضع بالتالي صاحبه في خانة التواطؤ المكشوف والعمالة الطبقية. وذاكرة الشعوب لن تنسى جرائم هذه القوى على مدى التاريخ، وعلى رأسها ذاكرة الشعب المصري. إن ما يثير شهية التفكير في التعايش مع هذه القوى أو ممارسته (أي التعايش، وبصيغه المختلفة) من طرف بعض القوى السياسية، هو قاعدتها الشعبية العريضة وقدرتها الكبيرة على التوسع والاستقطاب، على عكس هذه الأخيرة المعزولة في جل الأحيان والبعيدة عن أن تنغرس في صفوف الجماهير الشعبية الكادحة، وخاصة في صفوف المعنيين أكثر بالمشروع الثوري التحرري، أي الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. لا يخفى أن للقوى الظلامية (تنظيم "الإخوان المسلمون" بمصر مثلا) من الإمكانيات المالية والإيديولوجية واللوجيستيكية، بالإضافة الى الدعم الخارجي، مثلها في ذلك مثل الأنظمة الرجعية، ما يمكنها من بسط نفوذها وهيمنتها وتوسيع قاعدتها، خاصة وقدرتها، بل واعتمادها أساليب المناورة (منطق وضع رجل مع "الله" ورجل أو أرجل مع "الشيطان"). ويساعدها في ذلك تخاذل بعض القوى السياسية وضعف البعض الآخر وعجزه عن بلورة آليات إنجاز شعارات المرحلة الى جانب أوسع الجماهير الشعبية المضطهدة وفي مقدمتها الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. * الدرس الثاني: أولوية الأداة الثورية لقد خرجت الجماهير الشعبية المصرية الى الشارع وبأعداد غفيرة، وخلقت حدثا سياسيا غير مسبوق في تاريخ وتجربة مصر. إلا أن ما تحقق ليس في مستوى طموح وتضحيات هذه الجماهير، وقد يتكرر نفس سيناريو 2011 بشكل مأساوي. لقد بدا واضحا في حالة مصر وفي حالات أخرى خارج مصر (تونس...) أن غياب القيادة السياسية المخلصة لقضية شعوبها قد فسح المجال واسعا لأعداء الشعوب لقطف ثمار نضالاتها وتضحياتها البطولية. وأخطر من ذلك، تكريس واقع البؤس والاستغلال وصنع مخططات تأبيد الهيمنة الامبريالية والصهيونية والرجعية وما يترتب عنها من تردي اقتصادي واجتماعي ومن نهب لخيرات الشعوب... إنه من الطبيعي أن يبقى ثوار مصر مشدوهين ومرتبكين أمام الأمواج البشرية التي تدفقت الى الشوارع (ميدان التحرير، ساحة ربيعة العدوية...)، وهو ما تكرر لمرات عديدة وليس في مصر فقط!! إنه من الطبيعي أن يبقوا عاجزين عن توجيه هذه الأمواج أو التأثير فيها أو تنظيمها/تأطيرها. كما أنه من الطبيعي أن يتدخل على الخط من يمتلك إمكانيات التوجيه المحسوب والتأثير المطلوب لشق المسار الذي يراه مناسبا له في ظل ميزان قوة مختل... إننا لا نرضى لجماهير شعوبنا أن تصير دمى في أيدي أعدائها، توظفها ببشاعة وتحت يافطات خادعة في خدمة أجندات بعيدة عن مصالحها الطبقية. كما أننا لا نرضى لجماهير شعوبنا أن تخلف الموعد مرة أخرى مع التاريخ، خاصة والتضحيات التي قدمتها والخبرة السياسية التي امتلكتها ووعيها السياسي المتقدم الذي من المفروض أن يصير بوصلتها نحو معرفة أعدائها وصنع غدها المشرق. ولترجمة عدم رضانا على أرض الواقع في بعده السياسي وليس الأخلاقي أو العاطفي، لا بد من الانخراط الفعلي والآني في سيرورة بناء الأداة الثورية لمواكبة نضالات ومعارك الجماهير الشعبية وتحصينها وتطويرها وتوفير شروط إنجاحها. فلم يعد اليوم المشكل الأول هو إخراج الجماهير الى الشارع، بالنظر الى تعدد وسائل التواصل والاتصال وإمكانات نشر المعلومة والولوج إليها، إن المشكل يكمن أساسا في مدى القدرة على كسب ثقة هذه الجماهير وتأطيرها وتنظيمها، ومن بينها على الخصوص المؤهلة لقيادة الثورة باعتبار موقعها في الإنتاج، أي الطبقة العاملة. إنه بدون أداة ثورية حاملة لرؤية ومشروع سياسيين ثوريين وقادرة على رسم تحالفات سياسية منسجمة قائمة على برنامج نضالي دقيق يخدم قضايا شعوبنا، ستتكرر الأعطاب والخيبات وسنراكم الفشل بعد الفشل... ولهذا نقول بأولوية الأداة الثورية، ولو في صيغتها الأولية (رب شرارة أحرقت سهلا..). عن اكنول نت