وبالمعنى الأشد بساطة لهذه الكلمة»؛ وهذا كلام كله مفعم بالدروس والعبر... فالسياسة لها قواعدها ولها أصولها ولها تداعياتها على مستقبل البلدان والشعوب، وللنخب السياسية دور ريادي في هذا كله. وقد تحدثنا الأسبوع الماضي عن الصفات الثلاث الحاسمة التي ينبغي أن يتمتع بها السياسي: الشغف، والشعور بالمسؤولية، وبُعد النظر... والصفة الثالثة في نظرنا أكثر وقعاً وتثميناً لعمل السياسي، فبدون بعد النظر يخوض السياسي فقط في حل المشكلات الآنية دون الإبصار بنظارات استراتيجية مستقبلية خاصة إذا كان في موقع القرار... وهذه هي صفة القائد سواء كان في الجيش أو كان في السياسة، فلا يمكن للقائد العسكري أن ينتظر مقدم العدو لترتيب أوراقه العسكرية وتجهيز جيوشه للدفاع عن الحدود والتخوم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم)، فكذلك السياسي المحنك ذو بعد النظر، فهو ينظر إلى الحال والأحوال المستقبلية ويضع السيناريوهات الممكنة، ويضع في نصب عينيه مصلحة الحزب والبلد... فإذا انتقل إلى منطق المسؤولية في دواليب الدولة جعل مصلحة الوطن فوق كل ذي مصلحة، وإذا تحمل مسؤولية تعيين الرجال في المناصب العليا، تحرى الكفاءة في انتقاء النخب وليس انطلاقاً من المعايير السياسية الضيقة... وهذا هو المشكل الكبير عند القادة السياسيين في بعض الأحزاب التي وصلت إلى كراسي المسؤولية في دول كمصر وتونس. فقيادة سفينة تسيير الشأن العام مسألة صعبة ومعقدة وتحتاج إلى ربابنة مقتدرين. ورجالات الدولة التقنوقراط الحقيقيون غالباً ما يضعون مسافة بينهم وبين العمل السياسي، وتبقى الأحزاب السياسية فارغة من نخب مؤهلة لتحمل المسؤولية في تسيير الشركات والقطاعات الوزارية الحاسمة... وهذه مصيبة كبيرة ومردها إلى فقدان الثقافة السياسية المواطنية عند تلك النخب وعند تلك الأحزاب، فمهمة أي حزب يجب أن تكون تربوية (أي التأطير والتكوين السياسي للمواطنين والمواطنات أياً كان وضعهم الاجتماعي) ومواطنية (أي تعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام) وأخيراً سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة (لأنها تساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة). وعلى قادة الأحزاب اليوم مسؤولية كبيرة في تحري التأطير التربوي ودمج النخب المقتدرة في دواليب الأحزاب لتتحمل المسؤولية التسييرية بلون سياسي ولتقوم بعملية التغيير داخل تلك الأحزاب نفسها... فكل حزب يقوم على برنامج انتخابي وعلى منطق إيديولوجي معين... ووحدها الكفاءات كفيلة بضخ أفكار جديدة ومقترحات وبرامج تنموية. وهنا يتحول القائد السياسي إلى بطل سياسي، لأنه يكون بذلك قد أصلح حزبه وأدخل فيه عناصر تنموية مقتدرة ويكون التقنوقراط اللامنتمون عناصر سياسية تساهم في بناء السياسة الجديدة لبلدانهم وتشارك بناء على قناعات فكرية في بناء وتسيير الشأن العام... والذي نلاحظه في بعض الأحزاب اليوم في دول كمصر وتونس هو عدم قدرة السياسي على الانتصار على العدو الإنساني الكبير المتجلي في الزهو والغرور وهو عدو شديد الابتذال كما يقول ماكس فيبر، وهو العدو القاتل لكل تعاط مع كل قضية، وخاصة عند ضرورة اتخاذ مسافة ما، بل وحتى في اتخاذ مسافة من الذات أيضاً، فتراه يتغاضى عن الحديث مع النخب في المجتمع لإقناعها بعملية المشاركة السياسية داخل الحزب وفي إطار الحزب، ويكتفي بعناصر سياسية يضعها في مناصب حساسة اتقاء من شر النخب المؤهلة إذا وضعت في تلك المناصب وحتى يضمن الموالاة السياسية وهنا ندخل في إطار العلاقة بين الشيخ والمريد في الاقتصاد والسياسة فتضيع مصالح البلاد بالمرة. والسياسي الحقيقي، القائد والبطل، هو الذي يتغاضى عن المظهر البراق من السلطة، وهو الذي يسعى إلى السلطة الفعلية. كما أن السياسي الحقيقي، هو الذي يحس بالمسؤولية... أما انعدام الحس بالمسؤولية فيعني عدم التمتع بالسلطة إلا من أجل السلطة، ودون ربطها بأي هدف، والهواية في السياسة خطر على السياسة وعلى البلد برمته، السياسة تتطلب محترفين وقادة وأبطالاً، ويكون شغلهم الشاغل القناعة السياسية والفكرية والإيديولوجية الحزبية التي جعلتهم يقبلون المسؤولية في إطار ذلك الحزب، ويكون شغلهم الشاغل مصلحة العباد والبلاد لا مصالح آنية أو ذاتية أو نرجسية أو هواياتية فذلك شؤم في مجال العلوم السياسية ومضيعة لمستقبل الشعوب... وعلى القادة في الأحزاب السياسية أن يطعموا بيوتاتهم السياسية برجال وقادة أكفاء ونخب مؤهلة... وهذه النخب موجودة ودرست في أعرق الجامعات في العالم، في الفيزياء والطب والهندسة الحديثة وفي جميع المجالات، والبعض منها تمرس في أعرق البنوك والمؤسسات الدولية والعمومية العالمية، كما أن تلك النخب يتعدى مستواها الفكري والتنموي مستوى مسؤولين في أعرق الدول المتطورة كفرنسا وبريطانيا وأميركا... فتجدها خارج ملعب السياسة والتسيير في بلدانها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انظر مقالة الأكاديمي المغربي الدكتور عبد الحق عزوزي