المسائية العربية مما لاشك فيه أن الانتخابات البرلمانية المقبلة، سيعترضها أشخاص هنا وهناك متلبسون بالأنانية والشخصانية لا يرون إلا مصالحهم الأضيق من ثقب الإبرة، واهمين أنفسهم أن الدنيا لن تقوم إلا على أكتافهم، وخبراتهم التي أتوا بها من كوكب المريخ، والذين يحاولون وضع العصي في عجلات هذه الانتخابات البرلمانية المهمة في التاريخ المغربي لعرقلتها، سرعان ما تتكسر عصيهم أمام الإرادة الطموحة والعزم المصمم على المضي قدماً إلى الأمام، لأن الرجوع إلى الخلف محال في قاموس المصلحين المتطلعين إلى شمس الوطن المغربية المشرقة كل صباح، فالإصلاح يحتاج إلى أهل الصلاح، ومكافحة الفساد تحتاج إلى أهل الرشاد، وفي اللغة العربية، صلح وصلح صلاحاً، وصلاحية، زال عنه الفساد، واستصلح الشيء، ضد استفسد، والصلاح ضد الفساد. فلنبدأ بالإصلاح والصلاح من كل فرد منا، وفي كل أسرة مغربية، وفي كل مدرسة ودائرة انتخابية. فالمحللون السياسيون ورجال الإعلام يجمعون على أن الانتخابات البرلمانية المقبلة، ستكون المحك الفعلي للإصلاحات التي أتى بها الدستور الجديد، من أجل استدراك النقائص السابقة ورفع التحدي الصعب الذي يواجه كل الطبقة السياسية، سلطة وأحزاباً والمتمثل في مدى قدرتها هذه المرة على استقطاب الناخبين ورفع نسبة المشاركة التي تدنت في الانتخابات البرلمانية السابقة إلى أدنى المستويات. والحقيقة أن العملية الانتخابية بالغة الأهمية في الممارسة الديمقراطية، ليس فقط لأنها تجعل المواطن رقماً صعباً في المعادلة السياسية، إنما أيضاً لكونها تسمح بالتداول على السلطة على جميع المستويات، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه الطبقة السياسية المغربية، بخاصة في ظل ''الثورات العربية'' التي تشهدها المنطقة. من هذا المنطلق فإن ترقية العملية الانتخابية وإضفاء المزيد من الشفافية والمصداقية عليها باعتبارها مفتاح الإصلاح الديمقراطي يقع على عاتق الجميع، سلطةً وأحزاباً ومجتمعاً مدنياً، والنجاح في هذه المهمة الوطنية السامية التي أصبحت تشكل اليوم أولوية سياسية وطنية من الطراز الأول، يتطلب من الجميع الارتقاء بالأهداف والطموحات والنضال السياسي فوق الحسابات الحزبية الفئوية والطموح السلطوي المغري، لأنه حتى وإن كان الفوز في الانتخابات طموح مشروع لكل حزب سياسي في العالم، إلا أن هذا الفوز ليس غاية بحد ذاته، إنما هو مجرد وسيلة لتحقيق غايات أسمى وأهداف أرقى، تتمثل في التأسيس لدولة قوية، قوامها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وغايتها الارتقاء بالوطن والمواطن نحو أعلى درجات التقدم والرقي والازدهار. ومع اقتراب الاستحقاقات المقبلة، ومع ما عرفته أيضاً الساحة السياسية من تفريقات وانشقاقات حزبية، تعالت الأصوات بكل تلاوينها القزحية منادية بانتخابات نزيهة ودون اللجوء إلى المال السياسي !!فهل الدولة قادرة على الوقوف بحزم أمام الرشاوى الانتخابية...؟ اِن الرشاوى الانتخابية أو شراء أصوات الناخبين مقابل مبالغ مالية من الظواهر التي استشرت في المغرب خلال الانتخابات البرلمانية السابقة، وقد يلجأ عدد كبير من المرشحين إلى دفع مبالغ مالية للناخبين للإدلاء بأصواتهم لصالحهم حتّى يتمكنوا من الوصول إلى مقاعد البرلمان والتمتع بالحصانة البرلمانية. لكن هذه الرشاوى التي تدفع بسخاء، هناك من يبررها ويدخلها في باب الهدايا ويضفي عليها مسوح الدين، ويستدل بفتوى أو بأخرى من هنا أو هناك تأكّد أنّ المنح والهدايا التي يقوم بتوزيعها المرشحون على الناخبين حلال شرعاً ولا تعد من قبيل الرشاوى، ويبرّر هذا المرشح أو ذاك، بأنّ تلك المنح والهدايا تتم في العلانية وأمام أعين الناس وأنّها في الانتخابات تعدّ من صور المقايضة على الأصوات. وأمام الانتقادات التي توجه لمثل هذه القضايا فقد تمّ التخفيف من حدّتها وتعديلها، وذهب الراسخون في علم الانتخابات إلى القول أنّ القاعدة التي تحكم هذا الموقف أنّ الأعمال بالنيات مع التوضيح بأنّه إذا كان الغرض من تلك الهدايا هو مساعدة المحتاجين وابتغاء رضا الله فإنّها تكون حلالاً. أمّا إذا كان المرشح يقصد من وراء هداياه رشوة الناخب للحصول على صوته فإنّ الأمر يصبح حراماً. لكن بعض العلماء أكّدوا أنّ شراء الأصوات رشوة محرّمة شرعاً وجريمة يجب محاسبة كل من يتوّرط فيها وتزوير لإرادة الناخبين. وقالوا إنّ الذين يقدّمون الرشاوى الانتخابية لا يهمهم إلا الوصول إلى كراسي البرلمان ولا يسعون إلى خدمة الناس والارتقاء بمستوى معيشتهم مطالبين بضرورة مواجهة هذه الظاهرة بكل حسم وحزم. حيث أن شراء الصوت الانتخابي من جانب المرشح يعتبر إهانة لكرامة الإنسان وشراء للذمم ولا يقل في شناعته عن الرشوة أو التدليس أو الحصول على شيء بالإكراه أو الابتزاز وأنّ شراء الصوت أيضاً لون من العبودية من جهة البائع أي الناخب وشعور بالسيادة الزائفة من جهة المشتري أي المرشح. وشراء الأصوات من علامات الخيانة للوطن وللناس منذ البداية، لهذا لابد أن تكون هناك محاسبة لهؤلاء الذين يعطون بسخاء أيام الانتخابات وأثناء حملات الدّعاية ثمّ يتبخرون بعد الوصول إلى الكرسي أو بعد السقوط في القاع انتظاراً لمحاولة أخرى. فشرعاً يحرم التأثير على الإنسان أو استغلال ظروفه للحصول منه على مصلحة ومن المفروض أن يسأل هؤلاء من أين لهم هذا المال الذي يوزعونه يميناً وشمالاً وبأيّة طريقة يعوضون هذا المال؟ فشراء الصوت يدل على عدم وعي الناس السياسي وحصر جهودهم في الحصول على لقمة العيش وعلى مبلغ من المال يساعدهم ولو لعدّة أيام. فالذين يتقدّمون لشغل مقاعد مجلس النواب يجب أن يكونوا من ذوي الضمائر الحيّة ومن الأمناء القادرين على الإسهام الحقيقي في إدارة شئون بلادهم وسنّ التشريعات اللازمة التي تضمن أمن المجتمع وسلامته وتساعد على تثبيت الحقوق وإقرار الواجبات ونشر ثقافة الحرية والمساواة بين فئات الشعب. فشراء الصوت عمل مقزّز يدل منذ البداية على انتهازية المرشح وعلى أنّه يعمل للوصول بأيّة وسيلة إلى المقعد الذي يتحصّن به فيما بعد، فكان من الأفضل أن يشتري المرشحون الناس بالمعروف وبالوعود الصادقة وبأعمال حقيقية مؤثرة قبل حملاتهم الانتخابية وأن يتم إجراء انتخابات نزيهة وأن يصل إلى مجلس النواب، نواب من أهل الكفاءة حتى نستطيع أن نتعرّف على مشكلات مجتمعنا بصدق ونتمكّن من إيجاد الحلول المناسبة لها وننهض بالشعب سياسياً وتشريعياً واجتماعياً واقتصادياً وأن نحصنه بالقيم الراسخة في مواجهات تيارات العولمة العنيفة التي تحاول زعزعته عن قواعده. فلن نستطيع صدّ هذه التيارات إلا بنواب ومواطنين أقوياء متجردين يعملون لصالح الوطن ويقدّمون مصالحه العليا على المصالح الشخصية الضيّقة لأنّ قوّة المجتمع من قوّة أبنائه وضعف المجتمع من ضعف أبنائه والمواطنون هم المقياس الذي تقاس به قوة الأمم، وقديما قال أفلاطون، إن المدينة الفاضلة لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود الفضلاء. فالذهاب إلى صناديق الاقتراع ومنح الصوت لأحد المرشحين مسألة وطنية، ذلك أن القضايا الوطنية لا يأخذ عليها الإنسان مالاً أو جزاء من أحد، ولذلك فإن شراء الأصوات ومنح الناخبين أموالاً أو وعوداً يتنافى مع آداب الإسلام الذي يدعو إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. فيجب أن يكون الناخب واعياً عاقلاً فطناً وأن يبحث عن الأصلح الذي يفيد الأمة وينفع المجتمع ويقدم له ما يسهم في رقيه وصعوده، والذي يدرك هذه المعاني لا يقبل أن يحصل على نقود مقابل الإدلاء بصوته لأنه إنسان عاقل وسوي. ولجوء بعض المرشحين لتوزيع الأموال لاستمالة الناخبين هو أسلوب خطير ورهيب، لأن المرشح الذي يدفع لشراء الأصوات سوف يعمل على استرداد هذه الأموال عندما يصبح عضواً في البرلمان عن طريق مجموعة من الطرق التي يستحيي من ذكرها الشيطان. فالذي يشتري الأصوات واثق أنه سيعوض ما دفعه من خلال الغنائم التي تعود عليه أثناء وجوده تحت قبة البرلمان وهذه أمور مرفوضة إسلامياً وأدبياً وخلقياً. والذي يرشح نفسه وينجح ينبغي أن يكون مثالاً للقيم الرفيعة والفلسفة الحياتية التي ترقى بالمجتمع الذي نعيش فيه وتأخذ به إلى الطريق السليم. فتكرار ظاهرة الرشاوى الانتخابية في الاستحقاق البرلماني المقبل يعتبر صورة مكروهة لدى الأمم المتحضرة والمتقدمة، والمجتمعات الراقية لا يمكن أن تفعل هذا، وقد تابعنا العديد من الانتخابات في المجتمعات الغربية ولم نسمع عن مثل هذه الأمور. اِن شراء الأصوات ظاهرة تجعل الناس يبيعون لمن يدفع بسخاء، وهذا له نتائج خطيرة وسلبيات تضر بالمجتمع وهذا يعوّد الناس ألا ينتخبوا إلا إذا دُفع لهم، ومن يدفع أكثر ينال أصواتهم، وهذه الصورة كريهة يمجها الذوق السليم ويرفضها صاحب الفطرة النقية. لأن المجتمع الذي يملك إرثاً تاريخياً وقيماً هادفة يأبى مثل هذه السلوكيات غير السوية. لهذا فمسؤولية الناخب جسيمة عن صوته لأنه أمانة، فنحن مسؤولون عن معرفتنا بمن ننتخبه والصوت الذي ندلي به لصالح مرشح معين أمانة والأمانة مسؤولية وتكليف، إذا كان الله قد جعلنا أهلاً للأمانة فينبغي أن نقدر هذه المسؤولية وأن نضعها في الرجل المناسب ليكون في المكان المناسب. اِن شراء أصوات الناخبين سحت وتزوير وتلفيق، ولا يجوز بحال من الأحوال بيع الذمم أو شراؤها مقابل مبالغ مادية، لأنه تزوير لإرادة الناس لا يرتضيه عاقل سواء من الناحية الدينية والأخلاقية أو من ناحية المروءة. وقال لا يجوز شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً شراء الأصوات، ومن يبيع صوته يأكل سحتاً وهو لون من التزوير الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث: '' من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ''. فلا يجوز للإنسان أصلاً أن يعطي صوته لمن لا يستحقه، فإذا أعطاه لمن لا يستحقه مقابل مال أو هدايا أو مغريات زائفة، فقد ارتكب جرماً مضاعفاً لأنه باع صوته وشهد شهادة زور. وفي اعتقادي أن المرشح الذي يلجأ إلى شراء الأصوات لا يحظى بثقل اجتماعي أو خدمي لذلك يلجأ إلى هذه الوسائل غير المشروعة حتى يصل إلى كرسي البرلمان، رغم عدم استحقاقه لذلك. فكل صوت يشترى، سهم مصوب في صدر الديمقراطية المغربية، فإما أن تكون هناك ديمقراطية وإما لا تكون. فشراء الأصوات يحوّل مقاعد مجلس النواب إلى مقاعد في السينما أو المسرح، من يدفع ثمن التذكرة يدخل... ومثل هذه الديمقراطية لا أحد يريدها. وللأسف المأسوف عليه أن السباق إلى عضوية مجلس النواب، تحول في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها السواد الأعظم من المغاربة، تحول عند بعض اللاهثين إلى القبة، إلى '' فيزا كارت '' تربح في كل مكان وبالتالي يلهث وراءها الراغبون في الربح والذين لا تعنيهم مصالح الناس من قريب أو بعيد.