صور كثيرة تقتنصها عيني من خلف النوافذ، أحيانا صدفة، ومرات عديدة وأنا أتلصص على المدن من خلف الستائر، ومتعتي الصغيرة أن أتأمل الحياة بأبسط تفاصيلها من نوافذ السيارات الخاصة والعامة، أركز ناظري وأتابع ساعة الزمن تركض على إيقاع الناس ونبض قلوبهم.. صور مختلفة باختلاف المدن التي زرتها والعواصم التي سكنتها والأحياء التي مررت بها يوما.. راضية أو مضطرة أو تائهة. من خلف النوافذ، تشاهد الحقيقة كما هي، واقع الحياة دون تجميل، أمراض الفقراء وعقد الأغنياء.. كل شيء يبدو واضحا لأن عيونك ترصده من بعيد.. النساء الجالسات على أرصفة الفقر، ينتظرن لقمة العيش، أتأمل دوما وجوههن المتعبة وعيونهن الحزينة وأرواحهن الشفافة.. الأرصفة المكتظة والمقاهي التي تتناسل كالفطر أكثر من المكتبات ودور الثقافة.. تصلك من خلف النوافذ رائحة البن ممزوجة بالشيشة القادمة من الشرق.. توقظ في دواخلك أحاسيس دفينة وأوهاما وأمجادا حاكها التاريخ كاذبا ودرسها لنا، شعارات بائدة تذكرني بالعروبة والقومية وكل المفاهيم الزائفة.. من خلف النوافذ، أتعرف بسهولة على المومسات وهن يغازلن المارين، القادمين والمغادرين وعابري السبيل، وألمح أيضا غمزات بعض النسوة المتظاهرات بالحشمة، تفضحهن مشيتهن وحركاتهن وجفونهن ورجفة شفاههن.. من خلف النوافذ، ألقي تحية صامتة على معطلين اعتادوا خيبة الأمل وألفوا أيضا انتظار الوهم، منهكين من البطالة والحلم.. لا أعاتبهم ولا أشجعهم ولا أحاكمهم.. كل أولئك الذين أرصدهم بنظراتي أتساءل دوما.. ترى ماذا يخفون؟ لكل امرئ أسراره، حب أليم يداريه، حلم سري لا يبوح به.. جرح غائر قضى عمرا يداويه.. دون جدوى كلما صغر حجمه، كبر ألمه.. من خلف النوافذ أشمئز لرؤية أولئك الجبناء الذين يتربصون بالحقائب لانتشالها والركض بعيدا.. يمتهنون سرقة النسوة أكثر من الرجال، لأنهم ضعفاء وأنذال.. لا يختلفون في شيء عن أشباه الرجال الذين لازالوا ينظرون للمرأة كغنيمة.. يلهثون خلفها، يتحرشون بها ويزعجونها.. من خلف النوافذ تكتشف أحياء مظلمة وموحشة كسواد الليل، طرقات غير معبدة وأرصفة مستعمرة وحالة غريبة من نفاد الصبر تعلن بداية مشاجرات قوية.. حينما يسقط المطر، يحجب عني الرؤية كدمع كثيف، أمرر يدي فوق زجاج النافذة، وأصنع دائرة صغيرة علني ألمح تلك الورود الحمراء المرهفة التي تعلن قدوم الربيع، أشعر بالدفء وأنا أشاهد الناس يركضون بحثا عن مأوى.. من خلف النوافذ أسافر في رحلة طويلة أرافق فيها الصغار إلى المدارس البعيدة، أحمل عبء النسوة الماشيات على الأقدام إلى السوق أو المعامل.. أساعد في دفع عربات ثقيلة يجرها رجال مسنون بحثا عن لقمة شريفة.. أتضامن مع ذوي الاحتياجات الخاصة الذين سقطوا سهوا من المخططات الحزبية والجماعية و»الفردية».. لا طرق خاصة بهم ولا أرصفة ولا مواقف للسيارات.. من خلف النافذة شاهدت قبل يومين ملك البلاد يسوق سيارته وسط البيضاء، ترى ماذا يرى من خلف نافذته؟ نظاراته الواقية لن تحجب عنه رؤية الفقر والفوضى وآثار الاختلاسات الكبرى.. لابد أنه يتابع نفس الصور..