سيكون من باب دس الرؤوس في الرمال مثل النعام أن تمر الإشارات الملكية الأخيرة دون أن يلتقطها من يعنيهم الأمر، ويفهموا مراميها وأبعادها. فليس صدفة أن يتدخل الملك في آخر لحظة ليعفو عن المهندس مرتضى الذي أرسله أحد القضاة إلى السجن لثلاث سنوات لمجرد أنه وضع صورة الأمير مولاي رشيد في صفحته الخاصة بموقع «الفايس بوك». وليس صدفة أن يتدخل الملك ليعفو عن شيخ المعتقلين السياسيين محمد بوكرين، بعد أن أدانه بالسجن قاض آخر لمجرد أنه تضامن مع معتقلي فاتح ماي، دون أدنى احترام لسنواته الثلاث والسبعين ولا لحالته الصحية الحرجة التي تتطلب رعاية صحية دائمة. وليس صدفة أن يتدخل الملك ويعفو عن معتقلي فاتح ماي الذين أدانهم قاض آخر بالسجن بتهمة الإخلال بالاحترام الواجب للملك. فهؤلاء السجناء الذين أدينوا بأحكام قاسية من أجل تهمة يمكن أن يلصقها بك أي كان وبدون شهود، وأحيانا لمجرد الانتقام، ذهبوا إلى السجن باسم الملك. وعندما تتحدث التقارير الدولية عن فساد العدالة في المغرب فإنها لا تشير إلى هذه المحكمة أو تلك أو هذا القاضي أو ذاك، وإنما تتحدث عن مملكة محمد السادس. ولذلك فإذا كان هناك من أشخاص يسيئون فعلا إلى الملك والمغرب فهم أولئك القضاة الذين بأحكامهم يعرضون المغرب وملكه لسماع ما لا يرضيهم من المنظمات الحقوقية الدولية والمؤسسات المالية المانحة. قبل يومين عندما ذهبت نزهة الصقلي وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن إلى واشنطن وقابلت مسؤولين في الخارجية والكونغرس الأمريكي لمطالبتهم بالمساهمة في تحسين أوضاع النساء والأطفال في مخيمات تندوف، كان أول شيء سألها حوله أعضاء الكونغرس والخارجية الأمريكية هو أوضاع الصحافة في المغرب وقضية حرية التعبير. فالصحافة هي «الترمومتر» الذي تقيس به المجتمعات المتحضرة مدى تقدم شعب من تخلفه. ولعل السادة القضاة الذين يدينون المواطنين بأحكام قاسية بسبب أفكارهم أو قناعاتهم السياسية، ويصدرون أحكاما بالإعدام في حق مقاولات إعلامية شابة تقوم بواجبها في مراقبة تدبير المال العام وتمارس دورها في ممارسة الرقابة على العمل الحكومي، يغيب عنهم استحضار مصلحة المغرب العليا، ويصدرون أحكامهم التي تعود إلى القرون الوسطى، مثل الحكم على علي المرابط بالمنع من الكتابة لعشر سنوات كاملة، وهو الحكم الذي لم يصدره القضاة ضد الكتاب حتى في عصور الانحطاط. أو الحكم على شيخ في الخامسة والتسعين من العمر بخمس سنوات سجنا بتهمة إهانة المقدسات. ولو أنني كنت مكان وزير العدل لأمرت بتوقيف القاضي الذي أصدر هذا الحكم فور سماعي لوفاة الشيخ أحمد ناصر في السجن. لأن الذي أصدر هذا الحكم لم يهن فقط المهنة الشريفة التي ينتمي إليها، وإنما عرض، وهذا هو الأخطر، حياة مواطن مريض ومختل عقليا للخطر المؤدي إلى الموت. إن الذي تسبب في حبس هذا الشيخ ووفاته في السجن هو الذي أهان الملك في الواقع عندما نطق اسم الملك مقرونا بالحكم بخمس سنوات سجنا نافذا. ولعل أبسط شيء يمكن أن تقوم به وزارة العدل والدولة المغربية هو تجنب الفضيحة التي يمكن أن تكلف المغرب غاليا على المستوى الدولي بعدما قررت عائلة الشيخ أن تقاضي الدولة المغربية بتهمة قتل والدهم. أعتقد أن أبسط شيء هو البحث عن طريقة لتعويض هذه العائلة عن هذه المأساة، ليس ماديا، فهم ليسوا مثل بعض قضاة القصر الكبير الأربعة الذين يطالبون بمئات الملايين كتعويض عن ضرر لم يثبت فعلا أنه أصاب أحدهم، ولكن بفتح تحقيق نزيه حول مسطرة المتابعة والاعتقال والحكم التي تمت كلها في يومين عرفت حرمان المتهم من حقه في الدفاع، وفتح تحقيق طبي حول ظروف وفاته بتلك الطريقة الغامضة في السجن. إن رد الاعتبار لهذه العائلة يبدأ بمحاسبة كل الذين تسببوا في اعتقال والدهم وموته في زنزانته البادرة بعيدا عنهم، حتى لا نعود أبدا في هذه البلاد إلى سماع حكم بسجن شيخ في الخامسة والتسعين من عمره لخمس سنوات بسبب ما يراه سائق حافلة مسا بالمقدسات. على الذين مازالوا يحنون إلى سنوات الرصاص أن يفركوا أعينهم ويستفيقوا من سباتهم العميق، فالمغرب لن يرجع إلى الخلف، حتى ولو حاولوا جره بحبالهم المفتولة وآلاتهم المغناطيسية الجبارة التي يحرسون بها إقطاعية مصالحهم الشاسعة. والمغرب لا يعيش في جزيرة معزولة، بل إنه يوجد في مكان مكشوف يراه ويراقبه العالم بأسره. وهذا العالم الخارجي نحن بحاجة ماسة إليه لكي نبني هذا الوطن. وليس بإصدار الأحكام السالبة للحرية ضد الشيوخ والعجائز، وأحكام الإعدام ضد الصحافيين سنتقدم في الترتيب العالمي للتنمية البشرية. وليس بقمع التظاهرات السلمية للمواطنين والوقفات الاحتجاجية للمعطلين والأمازيغيين الذين يطالبون بفك العزلة عن قراهم ومدنهم سنعطي للسياح صورة جذابة عن المغرب. ولعل المتتبع للتطورات الأخيرة للحياة القضائية في المغرب سيلاحظ أننا نعيش ما يشبه حالة العفو الشامل عبر العفو عن معتقلين وتمتيع البعض الآخر بالبراءة. فليس صدفة أن يتم الحكم ببراءة العفورة وبعده بأسبوعين يتم إطلاق سراح إيزو والحكم ببراءة من معه. وليس صدفة أن تحكم محكمة مكناس في المساء ببراءة رقية أبو عالي ومن معها، وأن تحكم في الغد صباحا جنايات طنجة ببراءة واليين للأمن ودركيين، إضافة إلى ثلاثة قضاة توبعوا في ملف الرماش في خرق فادح لمسطرة الامتياز القضائي. وليس صدفة أن يصدر العفو الملكي عن المهندس مرتضى وأسبوعين بعد ذلك يصدر عفو ملكي عن محمد بوكرين ومعتقلي فاتح ماي. وليس صدفة أن يتم نقل القاضي الحفاية من محكمة الرباط إلى محكمة سلا مباشرة بعد إصداره لحكم قاسي ضد مصطفى العلوي مدير «الأسبوع السياسي» يقضي بتغريمه عشرين مليون سنتيم لصالح شركة «الصابو» الاسبانية. وقد اشتهر القاضي الحفاية بكونه يشكل مع القاضي العلوي ثنائيا متكاملا يقدمان ما يشبه عروض «الدوبل روشارج» في الأحكام. فإذا حكم القاضي العلوي بعشرة ملايين ضد الصحافي واستأنف هذا الأخير الحكم يسقط بين يدي الحفاية الذي يضاعف له مبلغ الغرامة. حتى يخاف الصحافيون من استئناف الأحكام الصادرة ضدهم، ويقبلوا بأحكام القاضي العلوي. والواقع أن وزارة العدل عندما تريد أن تتحرك لكي تعيد الأمور إلى نصابها فإنها تستعمل صلاحياتها بسرعة وفعالية. ولعل إقدامها على توقيف قاضي التحقيق عيروض في محكمة أكادير بسبب تورطه في قضية رشوة يكشف بالواضح أن كل القضاة يوجدون تحت مراقبة وزارة العدل، لكن محاسبتهم على الأخطاء لا يجب أن تكون انتقائية. فالقاضي عيروض يمكن أن يكون اقترف خطأ، لكن «خطأه» الأكبر ربما كان هو تجرؤه على استدعاء منير الماجدي مدير الكتابة الخاصة للملك للحضور إلى محكمة أكادير كشاهد في ملف «الكولونيل الهيلالي»، وأصر على استدعائه وذهب إلى حد المطالبة باستعمال سلطة المحكمة لإجباره على الحضور. فسحب منه رئيس المحكمة ملف «سرقة القصر الملكي بأكادير» وكلف به غيره. وبقية القصة تعرفونها. واضح أن هناك رغبة ملكية في تصفية تركة قضائية ثقيلة أصبحت تشوش على صورة المغرب، وتخيف المستثمرين المحليين والأجانب، وتضع المغرب في موقف حرج أمام تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والمؤسسات المالية المانحة. وعلى الذين لم يستوعبوا هذه الرسالة أن يفهموا أن المغرب لن يضع مستقبله رهن نزواتهم وطيشهم وكبريائهم المتضخم. لأن مستقبل المغرب يمر أساسا عبر بوابة إصلاح العدل، وهذا الإصلاح أصبح حتميا وضروريا اليوم أكثر من أي وقت مضى، حتى لا يجد المغرب نفسه مرة أخرى مهددا بالسكتة القلبية. وقديما قال المغاربة «الحر بالغمزة...».