[email protected] أعادت الانتخابات، التي فاز فيها اليسار بولاية حكومية جديدة هذا الأسبوع، الحديث عن قصة الانتقال الديمقراطي الناجح في إسبانيا، والذي انطلقت شرارته الأولى قبل أكثر من ثلاثة عقود. المفارقة في هذا الانتقال الديمقراطي، الذي أخرج إسبانيا من خانة التخلف والعزلة عن العالم الأوربي -حيث كانت تلقب ب«إفريقيا أوربا»- إلى نور الحداثة، أن قصة النجاح صنعها دكتاتور يسمى فرانكو حكم بالحديد والنار وتحالف مع الكنيسة والإقطاع ونكل بكل معارضيه، وملك شاب يكاد يكون بلا خبرة سوى تلك التي أعطاه إياها عدو العرش، الذي أطاح بالملكية ونفى والد خوان كارلوس، ولما أحس بأن عمره قريب من نهايته أعاد عقارب الساعة إلى الصفر وبدأ من جديد. كان فرانكو من طينة ما يسميه محمد عبده «المستبد العادل»، وعلى الرغم من ضبابية هذا المفهوم، ودون الدخول في ما إذا كان الاستبداد ينتج عدلا أم أنه أكبر ظلم، فإن فرانكو كان يعادي الديمقراطية لكنه كان يعرف قيمتها. إنه عسكري جاء إلى السلطة بانقلاب وقتل أعداءه بلا رحمة، لكنه أعاد بناء إسبانيا دولة موحدة، وأعاد تشكيل شخصية الإسباني، فزرع فيه قيم العمل والانضباط والولاء للعلم... هدم الديمقراطية وبنى أسس التقدم المادي والبشري. عندما أحس فرانكو بقرب نهايته كان يعرف أن النظام الشمولي الذي بناه سيُدفن معه ولن يبقى طويلا وراءه، فإسبانيا «محاصرة» بأنظمة ديمقراطية كلها تجددت بعد الحرب العالمية الثانية، وإسبانيا التي وحدها بالمدفع تضم لغات وعرقيات ونزعات انفصالية تحت الرماد، والجيش الذي دافع عن الدكتاتورية سرعان ما سيجد نفسه يتيما بعد موت الأب، والكنيسة التي كانت درعه الإيديولوجي كان فرانكو يعرف أن العلمانية ستجرف نفوذها... ولهذا قرر ما يلي: عودة الملكية إلى إسبانيا، تنازل الملك الأب عن العرش لابنه، إشراف فرانكو على تعليمه أصول الحكم وفن إدارة البلاد... لما توفي فرانكو سنة 1976، كانت إسبانيا مهيأة لولادة ديمقراطية فريدة. لقد قرر اليمين واليسار والشيوعيون والجيش والكنيسة... طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة بدستور جديد ونظام جهوي يعترف بالخصوصيات الثقافية واللغوية للإسبان، والانفتاح على العصر والخروج من جبة الدكتاتور... لم يكن المخاض سهلا.. تحركت بقايا الفرانكوية في الجيش أكثر من مرة حنينا إلى الماضي، لكن قطار الانتقال كان قد انطلق، ولم يعد شيء قادرا على الوقوف في طريقه. الملك الشاب تعلم الدرس من سقوط عروش أجداد في أكثر من بلد أوربي، فاختار أن يسود ولا يحكم.. اختار أن يلعب دور شرطي المرور الذي يسهل حركة السير عند الملتقيات الصعبة ولا ينزل إلى الميدان ليسوق بنفسه... هذا هو الدرس والباقي تفاصيل...