حين قطعتْ معركة الحركة الوطنية الفلسطينية شوط الانتقال الدراماتيكي الحادّ من معركة تحرّر وطني إلى «معركة» تسوية (وكان ذلك في مطالع تسعينيات القرن العشرين الماضي)، ودخلت في أنفاق ودهاليز مفاوضات ممتدّة لا أفق لها، كان التزوير السياسي الفاضح للصراع الفلسطيني –الصهيوني (طبيعة وآفاقا) قد بلغ مداه في امتداد أشكال جديدة من التعريف بذلك الصّراع ومن التعيين لآفاقه السياسية لم يكن مضمونُهما (التعريف والتعيين) ليخرُج عن كونه إسقاطا لجوهر التناقض الفلسطيني –الإسرائيلي من الأساس. وهكذا ازدهرت مقولات سياسية مصاحبة لفعل التسوية، ومختصرة لفِعْل تزوير جوهر الصراع، من جنس مقولة (أو شعار) «سلام الشجعان» و«دولتَيْن لشعبَيْن» وما في معنى ذلك! أتى ذلك تاليا لفعل تزوير أصل للصراع الأم: الصراع العربي-الصهيوني. فقد أتى على هذا –منذ حرب أكتوبر 1973 ونتائجها- تعجيل حاسم في الطبيعة والمعنى والهدف. لم يكن قد كرّس انتقالته الدراماتيكية في الخطاب العربي الرسمي من صراع وجود (بين الأمة العربية وبين المشروع الصهيوني) إلى صراع حدود (بين دول المواجهة والدولة العبرية: مع ما في ذلك –طبعا- من اعتراف ضمني بوجودها)، حتى بدأ يقطع شوط تهالُكِه وتهافُتِه في مسلسل متصل من «الخيارات» السياسية التراجعية التي توالت مقولات وشعارات سياسية تعبّر فصاحة عن منحاها التراجعي مثل «السلام العادل والدائم»، و«المؤتمر الدولي للسلام»، و«الأرض مقابل السلام»، و«السلام خيار استراتيجي»، وصولا إلى التطبيع المجاني (دون أن ننسى اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة)! تغَذَّى التراجع الفلسطيني من التراجع العربي، وترعرع فيه وبنى عليه. لكن ذلك إذ يفسِّره، فهو لا يبررّه. فإذا كان يستعصي القول إن التراجع العربي ما كان ليحدث لولا بعض تَراخ في الموقف الفلسطيني، أو بعض مَيْل فيه إلى إنزال سقف مطالبه الوطنية، فإن مما لا يستعصي قوله إن مزيدا من التمسك الفلسطيني بالثوابت الوطنية كان سيُفيد، في ما لو حصل، بكبْح جِماح التراجع العربي أو –على الأقل- بحرمانه من دليل فلسطيني على شرعيته. وفي أسوأ الأحوال، كان في وسع ذلك التمسّك الفلسطيني بالثوابت الوطنية (المنصوص عليها في البرنامج المرحلي) أن يحدّ من إيقاع التنازلات المجانية أمام العدو وأن يحصِّن الجبهة الداخلية ويحميها من الصراعات والانشقاقات التي باتت اليوم مقتَل القضية والشعب! منذ أن حوصِرت الحقوق الوطنية الفلسطينية في شعار (أو «مشروع») «دولتين لشعبين»، الذي أطلقَته سياسات الإدارة الأمريكية ولقي ترحيبا عربيا في قمتي بيروت والرياض، بات في حكم الثابت أن معركة التحرر الوطني لن تُكسب على النحو الذي يُنصف حقوق شعب فلسطين التاريخية، لأن أيّ حلّ سياسي على هذه القاعدة سوف يكرس اغتصاب القسم الأعظم من أرضه. ومع أن مبدأ قيام دولة فلسطينية على الجزء المحتل من فلسطين في حرب 67 كان دونه صعوبات تصل إلى حدود المستحيل (الانسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي المحتلة، إعلان القدس عاصمة لدولة فلسطين، عودة اللاجئين إلى ديارهم في فلسطين 48، السيادة الكاملة للدولة وحقها في التسلح على كامل أراضيها... وهذه -جميعها- مما لا تقبل به إسرائيل). ومع أنه ليس ثمة آلية دولية حقيقية لإنفاذ مبدأ «دولتين لشعبين» (مثل مؤتمر دولي ترعاه الأممالمتحدة وينعقد لتطبيق قراراتها ذات الصلة)، إلا أن هذا المبدأ -الذي قبلته القيادة الفلسطينية في عهد الشهيد ياسر عرفات- كان أقلّ الأضرار وأهون الشرور إذا ما قيس بما انتهت إليه قضية تقرير المصير الوطني اليوم من مآلات مخيفة. وقبل أن يصل المشهد الفلسطيني إلى ما وصل إليه اليوم من مأساوية واسوِداد وانسداد، كانت فكرة «دولتين لشعبين» قد مرّت من اختبار سياسي لم يُثبت سوى أنها فكرة مستحيلة التحقق: ليس لأن الفلسطينيين يرفضونها (وهي قد تستحق رفضهم)، وإنما لأن إسرائيل وأمريكا لا تريدانها. وما كان الاختبار ذاك سوى السلطة الفلسطينية نفسها. لقد قيل -حين ميلادها- إنها مؤقتة وانتقالية (في إطار برنامج الحكم الذاتي الانتقالي)، وذهب مَن راهَن عليها إلى حدود حسبانها نواة للدولة الفلسطينية القادمة من رحم المفاوضات. ثم ثبت -في النهاية- أن لا دولتين ولا يحزنون، وأن السلطة لن تكون انتقالية في الأمد المنظور، وأن لا علاقة أوتوماتيكية بينها وبين فكرة الدولة. وزاد الفلسطينيون على ذلك كلّه بمزيد من التمسُّك بها إلى حد الاحتراب الدموي عليها وكأنها غاية نضالهم ومنتهى مُرامِهم! وبلغ من خوف الناس على مصير القضية -في أجواء الاحتراب- أن تراجعت مطالبُهم إلى حدود الدفاع عن بقاء هذه السلطة موحدة ومتوافقا عليها بين داحس والغبراء بقطع النظر عن سَوْءاتها وبعد المسافة بينها وبين حق تقرير المصير. ولعلّ كثيرا منهم استبشر خيرا ب«اتفاق مكة» وقيام «حكومة وحدة وطنية» تعيد السيوف إلى أغمادها. انتهى ذلك كله اليوم، وهَان كثيرا خطأ الشهيد ياسر عرفات ورفاقه بقبول نصف حل: أي نصف وطن تقوم عليه دولة صغيرة إلى جانب دولة العبرانيين. فقد شاء السيد محمود عباس ومستشاروه والسيد إسماعيل هنية وشركاؤه في القرار أن يجُبّوا ما قبلهم فيعيدوا النظر في مجمل القضية ومستقبلها. أما المساهمة السياسية العظيمة، التي قدّموها لشعبهم اليوم، فهي تحريرُهم المصير الوطني الفلسطيني من قيد فكرة «دولتين لشعبين» وتقديم بديل تاريخي لها هو: سلطتين لشعب واحد! قريبا سيكتشف عباس و«حماس» أن «سلطتين لشعب واحد» هي أيضا مستحيلة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.