مسؤولية النقابات تكمن في ضربها الإصلاح من الداخل لأهداف نقابوية محضة، حيث تم سلك سياسة «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما». من حاول تطبيق القانون أو رد الأمور إلى نصابها أو تأديب رجل للتعليم لأنه تصرف تصرفا غير مقبول تنتفض ضده المكاتب النقابية التي أصبحت تحسن لعبة شد الحبل والمقايضة بعيدا عن نبل النضال النقابي. في خضم صراع النقابات في ما بينها من أجل التموقع وسط الأسرة التعليمية صارت تتبنى قضية كل من جاء بباطل أراد به حقا وكل من تملص من مسؤولية، وليس هناك فرق في هذا الإطار بين النقابات «التقدمية» أو «الإسلامية» أو «الوطنية» أو غيرها، كلها أصبحت لا تكترث إلا بالمكاسب الضيقة على حساب مصلحة التلاميذ والقضايا التعليمية. رغم تحسين وضعية رجال التعليم لعدة مرات فإن النقابات التعليمية لم تتبن الإصلاح أو تنخرط فيه. كيف نفسر أنها لم تحرك ساكنا حول تغيب الأساتذة وحالة التسيب التي تسود المؤسسات التعليمية وظاهرة الرشوة وظاهرة العنف والضرب الممنهج للإصلاح من الداخل؟ بعد النقابات يأتي دور «الكوزيف»، التي يفترض فيها أن تعنى بالمراقبة والرصد وتقديم الاقتراحات ودق ناقوس الخطر. لمدة خمس سنوات كانت هذه الهيئة ترى كيف أن تعليمنا ينزل إلى الحضيض ولكنها لم تفعل شيئا. لقد كان دورها محتشما، مهادنا، وباهتا إلى أقصى درجة. صحيح أنها سهرت على وضع المجلس الأعلى للتعليم وهذا إنجاز في حد ذاته، وصحيح ألا سلطة تقريرية لها، ولكن لها سلطة رمزية لأنها تجمع شتات الفاعلين في الحقل التربوي، كان يمكن استعمالها لتنبيه وزير التربية الوطنية إلى ضرورة اتخاذ الإجراءات الحاسمة والشجاعة قبل فوات الأوان، ولتنوير الرأي العام حول المعيقات والمقاومات، ولتعبئة الطاقات من أجل التصدي للانزلاقات على مستوى رجال التعليم والنقابات وعلى مستوى الوزارة بشقيها المركزي واللامركزي. أخيرا، نلاحظ تقاعس المجتمع المدني في لعب دوره كاملا في هذا الإطار. صحيح أنه انخرط في جهود التربية غير النظامية وجهود محو الأمية والتعليم الأولي، لكنه لعب أكثر دور الإطفائي الذي يحاول إخماد النيران التي تتسبب فيها حالة الفوضى واللامسؤولية التي تعم قطاع التربية. ولم يحاول تعبئة الرأي العام ضد هذه الفوضى ولم يقم بالمرافعة اللازمة لتغيير طريقة تدبير القطاع، ولم يكوّن الآباء والأمهات ويجعلهم ينخرطون في جمعيات تساعد المدرسة على القيام بواجبها. لقد كان دور المجتمع المدني باهتا إلى درجة التواطؤ، لأنه لم يرد إزعاج وزير التربية، ولم يرد وضع المعلمين والأساتذة في قفص الاتهام، ولم يرد أن يفتح جبهة مع النقابات التعليمية. النتيجة كانت هي شبه غياب تام لجمعيات المجتمع المدني عن القضايا الإستراتيجية للتربية والتعليم، وانخراطها بدلا من ذلك إما في قضايا التنمية أو في قضايا حقوقية عامة، تاركة الميدان فارغا للمفسدين وسماسرة الانتقالات ومهنيي التغيب والمراجعة الإجبارية والأسلمة الممنهجة لكل الدروس والإضرابات المتكررة. إذن المسؤولية تتقاسمها الوزارة والنقابات والمعلمون، بينما تتقاعس «الكوزيف» وجمعيات المجتمع المدني عن لعب دورها كاملا. الحصيلة فشل الإصلاح، تقهقر المغرب إلى أدنى المستويات مقارنة مع دول المنطقة والتراجع على مستوى مؤشر التنمية البشرية. ما العمل إذن؟ المسألة الأساسية هي أنه لا يجب أن نرجع كل الأمور إلى قضية التمويل. صحيح أن هناك خصاصا في الموارد البشرية للتقليص من الاكتظاظ ومن الأقسام متعددة المستويات وتعويض الغياب، وصحيح أنه يجب علينا وضع موارد من أجل تسهيل الولوج إلى الإعدادي خصوصا في العالم القروي، وصحيح كذلك أن الجودة تقتضي توفر الوسائل، وصحيح أن مراقبة العملية التربوية لا يمكن القيام بها بالموارد المتاحة حاليا. ولكن التمويل لا يهم إلا ما يسمى بالمدخلات وسوف لن يكون له أدنى أثر على النتائج، وحتى إن رفعنا من نصيب التربية في ميزانية الدولة إلى 30% ونصيبها في الدخل القومي بنقطتين مائويتين، بدون تغيير جدري في نظام التدبير والمراقبة والمساءلة، أي دون اعتماد طريقة راديكالية في كيفية التعامل مع القضية التربوية، لا يمكن لأي رفع في التمويل، مهما كان قدره، أن يغير من الأمور شيئا. أول شيء يجب القيام به هو وضع نظام صارم للمساءلة والمحاسبة تتم بموجبه مساءلة المسؤولين والمعلمين والمفتشين والنواب الإقليميين ومدراء الأكاديميات عن النتائج، مثل: مستوى التلاميذ؛ نسبة النجاح في الامتحانات الجهوية؛ نسبة النجاح في الباكالوريا؛ التخفيض من نسبة الهدر وغيرها من المخرجات. المؤسسات (بمعلميها ومفتشيها) التي تحقق نتائج إيجابية يجب التنويه بها وتشجيعها، والتي لا تحقق نتائج إيجابية يجب تنبيهها والعمل معها على تحسين نتائجها، مع الضرب على يد من لا ينضبط للقوانين وقواعد العمل. المساءلة تكون من طرف الوزارة والأكاديمية ولكن كذلك من طرف الهيئات المنتخبة محليا ومن طرف الآباء وجمعيات المجتمع المدني. يجب على مؤسساتنا التعليمية أن تحس بأنها مسؤولة أمام من يهمهم الأمر، وأنها مطالبة بتقديم الحساب عند نهاية كل سنة والحساب هو النتائج المحصل عليها. ثانيا، هذا يقتضي إعطاء سلطة أكثر للمدير ولمجالس التدبير. إن المدير مسؤول عن مؤسسة ولكن لا سلطة له على العاملين بها. أبجديات التدبير تقتضي أن من هو مسؤول عن مؤسسة له كذلك القدرة على التنبيه والتوبيخ والتشجيع والمحاسبة والمراقبة. إذا كانت للمدير سلطات محدودة فسوف لن يكترث به العاملون بها. لا يمكنك أن تطلب مني أن أسير مؤسسة وليست لي سلطات أو لي سلطات إدارية فقط، لا تدبيرية. من يراقب المدير؟ من جهة مجلس التدبير الذي يجب أن تكون له سلطة فعلية، ومن جهة أخرى مصالح النيابة بما فيها هيئة المفتشين التي يجب أن تلعب دورا أساسيا (تتجاوز من خلاله السلوكات السلبية التي اكتسبتها خلال السنين الأخيرة). ثالثا، القيام بإستراتيجية فعلية لتحسين الجودة من حيث وضع قاعدة معطيات للامتحانات المحلية والجهوية لا تعتمد ولو في جزء قليل منها على الحفظ، وذلك للتشجيع على تنمية كفايات النقد والتحليل وحل المشاكل والتواصل والحس المقاولاتي وغيرها. الجودة تقتضي كذلك تغييرا جذريا في البرامج (خصوصا برامج اللغة العربية والتربية الإسلامية) وتبسيطها وجعلها سهلة الاستعمال وجذابة وتلقن كفايات معينة وأن تكون ملائمة لحاجيات التلاميذ الشخصية والمجتمعية. خذ أي كتاب مدرسي للتربية الإسلامية أو العربية أو حتى المواد الأخرى وستجد أنه غارق في التنظير والأمثلة غير الملائمة والحشو الممل والأسئلة التي لا يمكن حتى للأستاذ أن يجيب عنها والتعقيد غير اللازم. لم أجد بعد كتابا مدرسيا سهلا، بسيطا، يطرح أسئلة مباشرة تخاطب الطفل وتجعله يربط علاقة بين نفسه وما يقدم له. رغم تغيير المناهج وصرف ميزانيات باهظة عليها لا زالت كتبنا المدرسية مملة، معقدة، بعيدة عن هموم التلاميذ وآبائهم، وكأن واضعيها لا يفهمون في الواقع المغربي وواقع الطفولة والشباب شيئا. وإستراتيجية الجودة تقتضي التكوين ولكن ليس في ورشات نظرية حيث يتم تلقين كفايات يمكن أن تكون مهمة دون أن يتم استعمالها في القسم. يجب أن يكون التكوين داخل حجرة التدريس. هنا يأتي دور المدير ودور المفتش ودور الأساتذة في ما بينهم. يجب خلق دينامية للإبداع والتجديد داخل المدارس وتحفيز المعلمين والأساتذة على الانخراط فيها. لاشك أن الكل سينخرط إذا كان يعرف أن ذلك سيحسن المردودية والتعلم ويسهل عليه عملية المساءلة في آخر السنة. دور الآباء مهم ولكن يجب أن نجد ميكانيزمات لضمان انخراطهم. جمعيات آباء التلاميذ أبانت عن محدوديتها لأنها تعامل كسائر الجمعيات الأخرى والسلطات تطلب منها تعبئة ملفات إدارية تبدو مستحيلة بالنسبة لكثير من الآباء، خصوصا في الوسط القروي. لهذا يجب تبسيط مساطر خلق جمعيات أولياء وآباء التلاميذ وإعطائها قدرا من السلطة والمسؤولية حتى تلعب دورها كاملا في تحسين مردودية مدارسنا. هذه فقط بعض المقترحات بالإضافة إلى ما يجب فعله في إطار تحسين الولوج ومحاربة الغش ووضع أنظمة للتعاقد وتنويع مصادر التمويل لإنقاذ التعليم من الكارثة المحققة المحدقة به. يجب أن تكون لدينا كذلك الشجاعة السياسية والتدبيرية لمواجهة كل من سولت له نفسه أن يتلاعب بمستقبل البلاد مهما كلف ذلك. يجب أن تكون لدينا الشجاعة السياسية لوضع الكل أمام مسؤولياته من مسيرين، ومعلمين ومفتشين ونقابات. إن لم نفعل فستبقى دار لقمان على حالها وبعد خمس سنوات أخرى، أي بعد أن نكون قد وصلنا إلى مؤخرة ترتيب مؤشر التنمية، سيكون قد فات الأوان ونكون قد نزلنا إلى عمق الإفلاس على مستوى رأسمالنا البشري.