المتابع لحدث تنحي وتخلي زعيم الثورة الكوبية، فيديل كاسترو، عن مقاليد الحكم في آخر جزيرة مازالت تلبس ثوب الحرب الباردة، لا بد له أن يقف على مدلول ورمزية هذا القرار الذي اتخذه كاسترو بدافع الحالة الصحية التي وصل إليها منذ 20 أكتوبر 2005، يوم سقط أمام عدسات الكاميرات من منصة مهرجان خطابي في سانتا كلارا. فيديل كاسترو لم يكن يرغب، هو الذي بقي معاندا ومقاوما لأكبر وأشرس وأعتد قوة في العالم لا تبعد سوى ببضعة كيلومترات عن سواحله، في أن يُخرجه التاريخ بطريقة مذلة قد تشبه خروج صدام حسين أو درامية في صورة وفاة ياسر عرفات. كاسترو أراد، بإعلان تنحيه عن السلطة، أن يضمن لنفسه خروجا مشرفا ومدروسا سلفا لرجل بقي على السلطة في أحد أصغر الأماكن في العالم مقاوما لعشرة رؤساء أمريكيين تعاقبوا خلال فترة حكمه لكوبا، دون أن يستطيعوا الإطاحة به بالرغم من عشرات المحاولات لاغتياله. «كاسترو.. الزعيم يضع السلاح»، هكذا علقت صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية، فيما فضلت زميلتها «لوفيغارو» أن تعنون مقالها ب«غروب فيديل كاسترو»، أما الصحف البريطانية فأجمعت كلها على تخصيص كل أغلفتها لصور الزعيم الكوبي ولحدث تنحيه عن السلطة، تماما كالصحف الأمريكية ووكالات الأنباء العالمية التي راجعت صفحات طويلة ومثيرة من نصف قرن من الأحلام الثورية الكوبية. في الجزائر، احتفلت الصحف هناك بطريقة خاصة بقرار اعتزال كاسترو الحكم، ونقلت صحيفة «الخبر» على لسان سفير جزائري سابق، (رغم انتهاء الحرب الباردة فقد فضل عدم الكشف عن هويته)، حكاية ما سماه ب«المواقف الكبيرة التي اتخذها الزعيم الكوبي فيديل كاسترو حيال الجزائر، خاصة موقفه المناهض لحرب الرمال التي شنها المغرب أشهرا قليلة بعد الاستقلال، في محاولة للسيطرة على جزء من الأراضي الجزائرية». وأضاف ذات المتحدث في اتصال هاتفي مع صحيفة الخبر قائلا: «بالرغم من العلاقات التي كانت تربطه بالدولة الجارة (المغرب)، إلا أن فيديل كاسترو اتخذ مواقف شجاعة حيال الاعتداء الجائر الذي قاده الراحل الحسن الثاني ضد الجزائر التي لم تكتمل، حينها، بعد فرحتها بالاستقلال». بعد سبعة عشر عاماً على سقوط جدار برلين وخمسة عشر عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي، بقي كاسترو، في سن الواحدة والثمانين، رمزا لحقبة تاريخية عايشتها أجيال القرن العشرين بكثير من الأحلام والآمال والانتصارات والانتكاسات الثورية والاشتراكية، حتى إن كاسترو، وهو في منعطف تخليه عن الحكم، لم يقبل بكلمة الفراق، وقال في رسالته التي خطها بقلمه بتاريخ 18 فبراير الجاري: «لا أقول الوداع لأنني أرغب في الكفاح كجندي مفكر، وسأواصل الكتابة تحت عنوان «أفكار الرفيق فيديل»، وسيكون ذلك سلاحاً من ترسانة يجب الاعتماد عليها، ربما سيسمع صوتي». ظل كاسترو حتى مطلع القرن الحالي آخر وجوه الحرب الباردة وآخر معاصر لجيل عبد الناصر وتشي غيفارا وماو تسي تونغ والمهدي بن بركة وكبار زعماء الحزب الشيوعي السوفياتي، حيث يحتفظ له التاريخ بكاريزما خاصة نسجها من تدخينه للسيجار ولبسه الزي العسكري الأنيق وخطاباته الجماهيرية الحاشدة، التي كانت تنطلق لكي لا تنتهي سوى بشعاره الخالد الذي ظل يحمله في قلبه ولسانه: «الاشتراكية أو الموت... حتى النصر».