مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خارج الحدود
ماي 68 .. ثورة طلابية من الأحلام
نشر في المساء يوم 17 - 02 - 2008

إنها أجمل ثورة عرفها التاريخ، واعتقد معها الجميع أن غدا ستحكم الحرية العالم. مجرد أحلام صارت في الوقت الحالي ذكرى من الماضي، لكن ذلك الأمس البعيد يبدو هو المستقبل الذي لم نستطعه، لن نكون جاحدين ونقول إن تغيرا لم يقع، لقد قلب هؤلاء الغاضبون الدنيا، ولن نكون أيضا حالمين، إنها كلمات منحوتة على أطلال «ماضي الأيام الآتية». مع اقتراب الذكرى الأربعين لثورة ماي68 الطلابية صدر لباتريك روتمان كتاب بعنوان «ماي68 محكيا للذين لم يعيشوه»، هنا مقتطفات منه نشرته مجلة النوفيل أوبسرفاتور.
شباب غاضب
من المستحيل تناول «ماي 68» ككتلة منسجمة بمنحه بعدا واحدا يتمثل في كونه مجرد مظاهرة طلابية أو ثورة مجهضة... هناك تعريفات كثيرة تلتقي في ما بينها.
يحاول التعريف الأول حصر «اللحظة» في معناها الصارم، أي الأسابيع الثمانية ابتداء من 3 ماي 1968 وهو التاريخ الذي انطلقت فيه الأحداث إلى غاية 30 يونيو.
لقد تميزت هذه الفترة بتشابك أزمة جامعية مع أزمة اجتماعية وأخرى سياسية.
وتأتي بعد ذلك مقاربة أخرى سوسيولوجية هذه المرة تضع «ماي 68» في إطار استمرارية لسنوات الستينات، وتعتبره بمثابة اللهب الذي أشعل نار التغيير الثقافي والمجتمعي الكبير.
وتتموقع ثورة «ماي 68» في منتصف الطريق بين نهاية حرب الجزائر وأزمة البترول الأولى.
إن هذا التحقيب الممتد لعقد ونيف يسمح بالقبض على الحركات الصغرى والجزيئية للمجتمع والتي أعلن عنها ماي 68 وأيضا على انعكاسات هذا الحدث البعدية على المجتمع الفرنسي.
وفي الأخير، هناك صيغة ثالثة للتمييز، ومرتبطة أكثر بالسياسة، تدعو إلى تعريف مرحلة سنوات الستينات باعتبارها مرحلة «حمراء»... ويبدأ هذا التحقيب السياسي بالقصف الأمريكي الأول للفيتنام عام 1965 وينتهي سنة 1975 بسقوط سايغون، وقد استوعب موجة احتجاج شملت كل القارات تقريبا، ولو أن ماي 68 مثل صفات خاصة، فإنه لم يشكل إلا جزءا من ملامح ظاهرة عالمية ميزتها يقظة شعوب العالم الثالث وحرب الفيتنام.
عود ثقاب 3 ماي
لقد ولدت نواة الاحتجاج في جامعة «نونتير» في مفترق الطريق بين الشعور بالضيق الوجودي وبين موجة التسييس، حيث أنشئت هذه الجامعة وسط مساحة خالية ومباني سكن غير لائق، وضمت طلابا أتوا عموما من غرب باريس، وكانوا في الغالب ينتمون إلى طبقات اجتماعية ميسورة تعايشوا فيها مع طلبة يحصلون على منحة ومجبرين على الإقامة في الحي الجامعي..
كانت حفنة من الطلبة في شعبة علم الاجتماع يتحلقون حول دانييل كوهن بنديت الذي كان ينتمي من قريب أو من بعيد إلى جماعة فوضوية، سوداء وحمراء، وكان أفراد من بينهم متأثرين بالمجالسيين... وكانوا يلجؤون إلى التهكم والاستفزاز أملا في أن تدفع راديكالية احتجاجهم شيئا فشيئا الطلبة الآخرين لاعتراض طريقهم...
وانضاف إلى الاضطراب ذي الطابع الجامعي المحض النضال ضد حرب الفيتنام، حيث تم قذف الحجارة في اتجاه إحدى الواجهات الزجاجية، وانتهى ذلك بإيقاف أحد الطلبة.
وكدليل منهم على التضامن قامت المجموعة الصغيرة المتحلقة حول دانييل كوهن بنديت الذي لم يتوقف تأثيره عن الازدياد بتعبئة مئات التلاميذ في أحد المدرجات الجامعية، وفي قاعة الاجتماع أنشئت حركة 22 مارس... ليتم في النهاية إطلاق سراح الطالب المعتقل، ورغم ذلك استمرت حركة 22 مارس في إثارة الشغب ب«نونتير» خلال شهر أبريل، حيث وقع الأستاذ روني ريمون ضحية إحدى حالات الفوضى، وقدد قرر هذا الأخير بتاريخ 2 ماي 1968 إغلاق الجامعة وإرسال كوهن بنديت وبعض رفاقه إلى المجلس التأديبي للجامعة، ظنا منه أنه سيوقف زحف العدوى بهذا الحل، لكنه عكس ذلك قام بإشاعتها.
في الثالث من ماي نظم تجمع للتضامن مع طلبة نونتير بساحة السوربون عرف حضور 300 طالب، وأثناء هذا التجمع تم الإعلان عن أن كوموندو حركة يمينية متطرفة يزحف نحو السوربون، ليستعين المناضلون داخل الحرم الجامعي بالطاولات كدروع تقيهم الضربات، إلا أن «الفاشيين» لم يحضروا كما تم الإعلان عن ذلك، ولم يحدث أي شيء في الساحة.
رغم ذلك وفي تلك اللحظة بالضبط حضر رجال الأمن ودخلوا إلى السوربون بعد أن تم استدعاؤهم من طرف العميد. لم يحاول الطلبة الدفاع عن أنفسهم، لكنها كانت المرة الأولى التي اقتحمت فيها الشرطة الحرم الجامعي الذي كان يعتبر إلى ذلك الوقت مزارا مقدسا لا يمكن الاقتراب منه.
ودون تقديم أي تبرير قرر رجال الشرطة أخذ الأولاد إلى المخافر قصد مراقبة هوياتهم في عين المكان، إلا أن الحافلات التي كان من المفترض أن تقلهم إلى هناك تأخرت كثيرا قبل أن تصل، وأثناء ذلك الوقت حاصر البوليس الشارع، في حين كان الطلبة يجلسون على أرصفة الحي اللاتيني يراقبون أعمالهم، ويقتربون ويطرحون أسئلة خالصين إلى تحميل رجال الأمن مسؤولية ما يقع.
بعد ذلك بدأت الشرطة في الهجوم والطلبة كانوا يقاومون. حينها شرع بين 2000 و3000 منهم في انتزاع أشجار شارع السان ميشيل، مع تشكيل ما يشبه المتراس في رأس الشارع، وفي الجهة الأخرى أخذ البوليس يطلقون الغازات المسيلة للدموع.
شارك المتسكعون في مشاهد عنف غير قابلة للتصديق، وتلقى رجل أمن حجارة فتحت جمجمته، فأخلت الشرطة شارع السان ميشيل بقمع وضرب كل شاب أو حتى يافع يصادفونه في طريقهم، وخلال بضع ساعات أيقظت هراوات قوى الأمن نزعات آلاف المسعورين.
10 ماي.. ليلة المتاريس
عدد كبير من الشباب كانوا على موعد في ساحة دونفر روشرو، على الساعة السادسة والنصف، من بينهم عدة آلاف من التلاميذ الراغبين في التعبير عن تضامنهم مع الطلبة.
كان عدد المتظاهرين مثيرا للدهشة كما تبرز ذلك صور تلك الحقبة، وقدر بحوالي ثلاثين ألفا ... وقد أعطى كوهن بنديت باعتباره العقل المدبر الأوامر لاحتلال الحي اللاتيني كرد فعل على احتلال رجال الأمن للسوربون، وانتشر الطلبة في الأزقة المجاورة إلى غاية البانثيون وشارع غاي لوساك دون عنف.
كان الجو مرحا والطلبة يناقشون في ما بينهم ومع السكان، وفجأة ودون أن يدري أحد من أين أتى ذلك، في التاسعة مساء، شرع البعض في قذف الحجارة... متنافسين على صنع أجمل المتاريس وأعلاها... في الساعة الحادية عشرة تم وضع حوالي أربعين متراسا، يقترب بعضها من العبث، كما هو الحال بالنسبة إلى واحد أنشىء في زقاق بدون مخرج.
في تلك اللحظة كان المحافظ موريس غريمو ينتظر طويلا ليترك للتلاميذ الوقت كي يتوجهوا إلى بيوتهم ليناموا، إلا أنه قرر في الساعة الثانية صباحا أن يحسم في الأمر وأعطى أوامره بإزالة المتاريس... لترتكب حينها أعمال عنف غير مبررة، وتحولت تلك الليلة إلى لحظة مفصلية وشكلت نقطة اللاعودة بالنسبة إلى هذه الأحداث، كما خلق عنف هذه الليلة الجنونية وضعا جديدا جعل كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين يأخذونه بعين الاعتبار.
إضراب عام
في الرابع عشر من ماي توجه دوغول إلى رومانيا في زيارة رسمية، وتردد في إتمام هذا السفر الذي كان مهيأ له منذ فترة طويلة، إلا أن «بومبيدو» دفعه إلى ذلك سعيدا بالبقاء وحده قائدا للسفينة، وفي نفس الوقت تم التصويت على خوض الإضراب في مصنع «سود أفياسيون»، حيث احتل ألفا عامل المصنع واحتجزوا المدير تقودهم نواة من النقابيين الفوضويين.
لقد كانت أول شركة يعلو فيها العلم الأحمر.
بعد ذلك بقليل سيتوقف العمل أيضا في مصنع «رونو»، وتمت محاصرة الأبواب واحتجاز المدير، وأصبحت «سود أفياستون» و«رونو كليون» بالنسبة إلى الإضراب ما كانته نونتير بالنسبة إلى الاحتجاج أي فتيلا للإشعال.
انتشر الخبر مرة أخرى بسرعة فائقة بفضل الترنوزيستور، وبعد ذلك بقليل لم يبق الأمر مقتصرا على مصنعين يخوضان الإضراب، إذ منذ السادس عشر ماي التحقت مصانع «رونو» الأخرى بالحركة، وأصبح كل واحد يجعل أنظاره موجهة إلى ما يحدث في «رونو»... وأكثر من أي وقت مضى انتقلت القلعة العمالية وقلعة نقابة السي جي تي إلى رمز.
تمثلت المطالب الرئيسية في الأجور وخاصة الحد الأدنى للأجور، وأسبوع الأربعين ساعة عمل، وشروط العمل... وفي السادس عشر من ماي نظم أوجين ديسكون اجتماعا للمسؤولين في نقابة السي إف دي تي الذين أكدوا له مجتمعين وجود مناخ مناسب للتحرك في الشركات، وأعطى الأمر للتصويت لصالح الإضراب، والتحقت بهم السي جي تي في الغد، حذرا من التنظيمات اليسارية، لأن النقابة تتخوف دائما من أن تتجاوزها تلك الحركة والتي تشعر أنها تعرف اتساعا يجهل مداه، وحاولت الحفاظ على قوتها وتأثيرها في المعاقل الكبرى للتعدين وفي النقل.
من الثامن عشر ماي إلى العشرين تم تعميم الإضراب بسرعة فائقة كعدوى منتشرة، وفي ظرف أسبوع فقط بلغ عدد المضربين ستة ملايين، وفي الثالث والعشرين أصبح الإضراب عاما، وسجلت فرنسا سبعة ملايين مضرب، وشكل إضراب 1968 أكبر إضراب في تاريخ الحركة العمالية الفرنسية.
وداعا دوغول
فهم دوغول أن الأمر يتعلق بأزمة مجتمعية عميقة، بل إنه سيتحدث عن «أزمة حضارة». إنه يميل إلى الإصلاح لكنه طبعا يريده هادئا، حيث انفلت من بين يديه هذا الحراك العقيم وهذه الوضعية غير القابلة للتحكم.
اقترح دوغول أن يتوجه إلى الشعب في مساء 24 مارس، مقتنعا أنه سيجد حلا للأزمة كما تعود دائما أن يفعل، فهو ذلك الشخص الذي يجسد فرنسا والتاريخ والشرعية والسلطة، وقد فكر في كون سحر كلامه كفيلا بحلحلة الوضع، إلا أن خطأ آخر ارتكبته الحكومة اعترض مخططه، ففي 22 ماي وحين بلغ الإضراب ذروته تم منع دانييل كوهن بنديت من الإقامة في فرنسا بدعوى تصريحه في أمستردام أنه يجب تمزيق العلم الفرنسي لتعويضه بالعلم الأحمر، وقد أطلق هذا الحدث حركة طلابية منهكة بسبب انسداد الآفاق وغياب الزعيم الذي غادر منذ أيام ولم يعد.
في 24 ماي دعت الحركة الطلابية إلى التظاهر في محطة ليون مع رفع واحد من أشهر شعارات ماي 68 وأجملها: «كلنا يهود ألمان»، وفي الثامنة مساء استمع المتظاهرون إلى خطاب رئيس الدولة مباشرة في الراديو... حيث قام دوغول بتحليل مجتمع بلا روح مليء بآمال مشروعة في حياة مختلفة وقدم كحل للأزمة المفهوم الدوغولي للمشاركة.
كان خطاب 24 ماي جيدا والذي أخذ قيمته في ارتباطه بالأحداث، إلا أنه رغم ذلك لم يحقق النجاح المرجو منه، حيث أخرج المتظاهرين مناديلهم بمجرد انتهاء الخطاب وأخذوا يصيحون «وداعا دوغول، وداعا دوغول»، أثناء ذلك سد رجال الأمن شارع ليون، ووجد عدة آلاف من المتظاهرين أنفسهم محاصرين، قبل أن يتفرقوا إلى مجموعات صغيرة، وقد أعطت قوى الأمن الانطباع بأن الأحداث تجاوزتها، وأنها تصل دائما متأخرة، فعندما وصلوا إلى البورصة، على سبيل المثال، كانت النيران بدأت في التهام البناية ، وفي ذلك المساء اجتمعت كل الظروف لتنحرف الحركة في اتجاه المجهول، وكان بإمكان مجموعات مصممة أن تستولي على وزارات لا توجد بها حراسة كافية وأن تحتل بنايات رسمية وتحول التمرد الغاضب إلى فتنة، لقد كانت كل الظروف مجتمعة باستثناء شيء واحد هو إرادة حمل السلاح والموت... هكذا وفي ساعة المساء الأولى بشارع ليون سارع رجال الأمن لمنع السطو على مصنع للأسلحة من طرف عناصر سائبة، ويمكن تخيل ما كان سيحدث لو أطلقت رصاصة واحدة.
رغم ذلك كانت مشاهد العنف فظيعة، وتعرض مركز الشرطة بالدائرة الخامسة إلى هجوم بقذائف المولوتوف واشتعلت فيه النيران، حيث تملك الخوف رجال الشرطة المتواجدين بالداخل وطالبوا رئيسهم بأن يأذن لهم بإطلاق النار، إلى أن جاءت المساعدة في الوقت المناسب لتفريق المتظاهرين قبل أن يبدأ رجال الأمن في إطلاق الرصاص، بعد أن كان الوضع على شفا حفرة من الكارثة.
يقال إن أحداث ماي لم تخلف موتى 68، ومع ذلك فقد سجلت تلك الليلة قتيلين.
مفاوضات للبحث عن مخرج
فتح باب المفاوضات في وزارة الشغل بين الحكومة والباترونا والنقابات بعد زوال يوم 25 ماي، ساعات فقط بعد عودة الهدوء إلى باريس، وقد شكل اجتماع كل الفاعلين حول نفس الطاولة نصرا لبومبيدو، فرئيس الوزراء كان يتحكم جيدا في الملفات ويسير الحوار بمساعدة مستشاره إدوار بلادير وجاك شيراك الذي كان يشتغل بفعالية في الكواليس زهاء أسبوعين تقريبا.
كان رئيس الوزراء يدعو إلى وضع حد للإضراب وإلى عودة الهدوء على قاعدة اتفاق مع المركزيات النقابية الكبرى، ونفس الأمر كانت تعتقد به قيادة نقابة السي جي تي الذراع العمالية للحزب الشيوعي.
كان الحزب الشيوعي الفرنسي إقطاعية تابعة للحركة الشيوعية العالمية وللاتحاد السوفياتي، وفي الستينات كان برجنيف على رٍأس السلطة في الاتحاد السوفياتي، وبالنسبة إليه كما هو الحال بالنسبة إلى القادة السياسيين الذين سبقوه، فإن السياسة الخارجية حاسمة، والحال أن سياسة عدم الانحياز التي ينهجها الجنرال دوغول، ومادامت تبدو ذات نزعة مناهضة لأمريكا ، فهي تمثل مكسبا مهما للاتحاد السوفياتي....
مساء الأحد أعلن جورج سيغي من نقابة الحزب الشيوعي أنه لا مخرج تم التوصل إليه، وعلم أن مظاهرة يهيأ لها في ملعب شارلتي برعاية الحركة اليساروية التي يمقتها ودعم نقابة «السي إف دي تي» و«منديس دو فرونس»، وفجأة تحرك «سيغي» باعتباره سياسيا وليس نقابيا وطالب بتسريع المفاوضات، وعاد للقاء جاك شيراك رأسا لرأس، ليتم التوصل إلى اتفاق في الفجر.
صباح الاثنين ذهب بومبيدو إلى بيته لينام، بعد أن أخذ منه العياء نصيبه، لكنه كان مرتاحا، مؤمنا بأن المخرج من الأزمة صار قريبا.
مأزق اليسار
في الوقت الذي تم التوصل فيه إلى اتفاق كان هناك تجمع للحركة الثورية في ملعب شارلتي، يسعى الداعون إليه إلى تقديم حل مانديس فرونس الذي فرض نفسه كرجل أرسلته العناية الإلهية ... فهو يمتلك سمعة الحركة لانتمائه إلى الحزب الاشتراكي الموحد بقيادة ميشيل روكار، ومن جهة أخرى صورة رجل الدولة نظرا لماضيه كرئيس سابق للمجلس.
جمع شمل الثوريين والإصلاحيين في ملعب شارلتي حول شخصه، إلا أن هذا التقارب لم يكن إلا ظاهريا، وهو ما اكتشفه مانديس بنفسه، حيث لجأت كل الخطابات التي تم إلقاؤها ذلك اليوم إلى بلاغة ثورية يجد نفسه بعيدا عنها، بين جموع تسبح في اليوتوبيا وتتحدث عن لجان العمل المجالس العمالية، وباختصار فقد كان تجمع شارلتي عبارة عن رغبة سياسية مجهضة.
مقابل مانديس دو فرانس يظهر فرانسوا ميتران ممثل اليسار غير الشيوعي والغائب عن تجمع شارلتي. كان التنافس قويا بين الرجلين، إذ دعا ميتران إلى ندوة صحفية قصد الإعلان عن حله الخاص للأزمة، لأن الاستفتاء الذي اقترحه دوغول اعتبر بمثابة إعلان فشل، ويكمن المخرج الوحيد حسبه في تنظيم انتخابات جديدة يرشح نفسه فيها، واقترح بموازاة ذلك حكومة انتقالية بقيادة مانديس.
وجدت اقتراحات ميتران صدى لها عند اليسار التقليدي والمبنية على فرضية مغادرة دوغول لسدة الحكم، وهو اقتراح ووجه بإدانة كبيرة من طرف اليمين في ما بعد، الذي لم يتردد في وصفه ب«الانقلابي».
اختفاء الجنرال
في التاسع والعشرين من ماي سارت كل الأمور بسرعة، إذ أعلم الجنرال دوغول رئيس الوزراء أن مجلس الوزراء تم إلغاؤه ليصعد إلى طائرة الهليكوبتر دون أن تتمكن الرادارات من رصده مختفيا عن الأنظار.
بعد ذلك تم إخبار وزير الدفاع باختفاء رئيس الجمهورية ، وعلم بومبيدو بنفسه الخبر بهذه الطريقة، وبعد زوال 29 ماي كانت المظاهرة التي نظمتها نقابة السي جي تي على مبعدة 400 متر من قصر الإليزيه، إلا أن القصر كان خاليا لأن الرئيس غادره.
لقد حطت الهليكوبتر الرئاسية ب«بادن بادن» في إقامة «ماسو» رئيس القوات الفرنسية في ألمانيا، لكن دوغول التزم الصمت حول هذه القصة، في الوقت الذي حكى فيه «ماسو» هذا المشهد لعدة أشخاص، بل إنه ألف كتابا حول الموضوع يدعي فيه أنه رفع من معنويات دوغول.
هل فكر رئيس الدولة حقا في الاستسلام وأن يخضع لواقع الأمر، إنه أمر لا يمكن تصوره ولا يمكن تخيل الرئيس متخليا عن الرئاسة، لقد كان متعبا، وهذا أكيد، منهكا وساهرا لليال، إلا أنه كان في كامل قواه. فلا يمكن لرجل 18 يونيو أن يفر إلى ألمانيا، حيث توجد فرضية أخرى تناقض الرواية التي قدمها «ماسو» وتقول إن الهروب الذي استمر لساعات قد لا يكون إلا خطة محبوكة وضعها معلم بارع لإثارة صدمة نفسية عند الرأي العام، إذ بذهابه كان دوغول يحاول أن يخلق حالة انتظار تسمح له في النهاية بعودة مدوية.
وفي خطاب موجه إلى الفرنسيين عبر الراديو بتاريخ 30 ماي على الساعة الرابعة تحدث دوغول بصوت مؤثر وحربي يذكر بدوغول الأيام الخالدة، معلنا أنه سيبقى ولن ينسحب محبطا استراتيجية ميتران التي صرع بها قبل 48 ساعة فقط، ومعلنا احتفاظه ببومبيدو وبحل البرلمان، وفي نفس اللحظة التي كان فيها يلقي خطابه خرجت مظاهرة دعت إليها مجموعة شبكات دوغولية صغيرة في ساحة لاكونكورد، وكان الداعون إليها يعتقدون أنهم سيجمعون بعض الآلاف، لكن سحر اللغة الدوغولية جمع حشدا كبيرا قدر بحوالي 300 ألف إلى 400، اجتمعوا لتأكيد دعمهم لدوغول.
يمكن القول بأن ماي 68 انتهى في مساء 30 ماي خلال أربع دقائق استغرقها خطاب كان بمثابة عصا سحرية، فرضت الحل واستمرار دوغول في مهامه وتصويت الفرنسيين في الانتخابات التشريعية ليونيو 1968 التي شكلت اكتساحا لليمين وانكسارا لليسار، وعاد كل شيء إلى سابق عهده بعودة الهدوء والنظام، حيث أفضت هذه الحركة الكبرى الديمقراطية والفوضوية إلى البرلمان الأكثر محافظة منذ زمن بعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.