وحدهم المغاربة يتحدثون الفرنسية في الطائرة أو في مطار مدريد-باراخاس، حتى الفرنسيون يضطرون إلى إخفاء لسان موليير في جيوبهم وهم يجوبون أروقة المطار، خصوصا عندما يجدون أن الإسبانية والإنجليزية هما اللغتان الجاري بهما العمل. ليس جميع المغاربة يتحدثون بالفرنسية، بل صنف واحد يريد أن يثبت للإسبان أنه رغم قدومه من الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، فإنه يختلف عن الآخرين، بمعنى أنه ينتمي إلى النخبة، لكن هذا الصنف يتناسى أن هذا الأمر ساري المفعول إلى حدود طنجة فقط، فالإسبان يعتقدون أن المتحدث بلغة أحفاد الثورة مجرد مهاجر يقطن في الضواحي الباريسية التي باتت تنتشر بها عادة إحراق السيارات، لأن سلم التراتبية الاجتماعية السائد في المغرب ينهار تماما بمجرد ما تطأ عجلات الطائرة أرضية مدريد-باراخاس، حيث تبدأ لعبة جديدة بقواعد اجتماعية أخرى تحددها السحنة أكثر من أي شيء آخر. أما المغاربة الآخرون، أي أولئك الذين يبيعون مجهود عضلاتهم بالتقسيط في الحقول والمقاهي والمصانع الإسبانية، فإنهم لا يغيرون شيئا من عاداتهم، يتعرفون على بعضهم بسهولة كبيرة، ربما من سمرة البشرة أو النظرة المميزة أو الابتسامة الغامضة التي توحي بأنهم متواطئون على الأمر نفسه، فالواحد من هؤلاء لا يمكن أن يتنكر لأبناء جلدته داخل المطار حتى لو تحدث معهم بجميع لغات العالم، ففي المطارات العالمية يتأكد المرء من أن المغاربة يحملون في جيناتهم طابع المملكة الشريفة الذي يدل عليهم قبل أن يشهروا جواز سفرهم. حتى بعض رجال الشرطة الإسبانية باتوا يتكلمون بضع كلمات بالدارجة المغربية تنفعهم مع المهاجرين الجدد الذين لا يتكلمون لغة أخرى غير الدارجة، فهذا الصنف من أبناء جلدتنا يكون قد حصل للتو على عقد عمل وجاء إلى أرض الأحلام يحمل معه في جيبه ورقة رثة لعنوان كتب بخط سيئ، بعضهم يتيه في المطار وآخرون يوظفون حاسة الشم قصد العثور على أول مغربي يصادفونه ليطلبوا منه إرشادهم إلى العنوان بصوت مرتجف يخنقه إحساس عارم بالغربة ورغبة قوية في البكاء. قرب قاعة الولوج إلى الطائرة في مطار مدريد-باراخاس جلست نسوة ينتمين إلى المعسكر الذي يتكلم الدارجة المغربية، لم تغير سنوات الغربة التي قضينها من لباسهن أو أحاديثهن، فهن مازلن يرتدين الجلباب التقليدي ويدخلن في أحاديث جانبية عن الصحة والتعازي والولادات والعلاقات الزوجية التي باتت صعبة هذه الأيام، وبجانبهن جلس مجموعة من الشبان الإسبان على الأرض، واقترح عليهم زميلهم أن يلعبوا لعبة للتسلية. كانت النساء منشغلات بالنميمة قبل أن تتوقف إحداهن عن الكلام وتقول مخاطبة زميلة لها: «هؤلاء النصارى ذكروني بالألعاب التي كنا نبتكرها في البادية». بقرب النسوة كان مهاجر مغربي آخر ينتظر طائرته، ولم يجد سلوى أخرى غير الخوض في حديث مع مغربي يجلس بجواره يبدو أنه تعرف عليه للتو، فراح يشتكي له كيف أن أبناء عشيرته جميعهم يريدون المجيء للعيش في إسبانيا، فأبناؤهم يريدون ترك الدراسة ويلحون عليه لاصطحابهم معه، مردفا بحنق ظاهر: «أخشى أن أستيقظ ذات يوم وأسمع الكلاب بدورها تنبح في وجهي: إسبانيا، إسبانيا».