انعقدت منتصف الشهر الماضي بمقر مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء ندوة في موضوع «الأبعاد السياسية للإشكالية اللغوية في المنطقة المغاربية». وقد اشتركت في تنظيم هذه الندوة مجلة «مقدمات» ومؤسسة فريدريش إيبرت وجمعية الباحثين الشباب في العلوم الاجتماعية. عبد المجيد جحفة - إضافة إلى الورقة الأرضية، التي تلاها رئيس الجلسة على الحاضرين، قُدم عرضان، أولهما للأستاذ عياض بنعاشور (أستاذ بجامعة قرطاج، وعضو معهد القانون الدولي)، وكان بعنوان «اللغة بين الثقافة والسياسة: حالة المنطقة المغاربية»، وثانيهما للأستاذ عبد السلام الشدادي (أستاذ بجامعة محمد الخامس)، وكان بعنوان «مسألة اللغة في المغرب: مقاربة عامة»، وتلا العرضين تعقيبات للأساتذة أحمد عصيد ورشيد الإدريسي وجمال بندحمان، ثم فسح المجال بعد ذلك للمناقشة العامة. وفتحا للنقاش في هذا الموضوع، أسجل الملاحظات التالية: هناك إجماع على أن المشكل اللغوي في المغرب هو في غاية التعقيد، والغريب أن الحلول المقترحة من لدن أمثال هذين «المحللين» هي في غاية البساطة: رمي اللغة العربية إلى البحر وإحلال الدارجة محلها. ولا نعرف كيف سيتم هذا الإحلال. يقول الأستاذ بنعاشور إن ذلك يتم من خلال التنصيص على الأمر في القانون. ولكن القانون لا يخلق واقعا لغويا، وهو الأمر الذي انطلق منه. الواقع اللغوي تخلقه حيثيات كثيرة على الميدان. ومن جانب آخر، القانون ليس بمقدوره تغيير الواقع اللغوي إلا إذا تدخلت فرنسا، في هذه الحالة، بكل ثقلها لتجبرنا على احترام القانون، هي الداعية إلى الدوارج انسجاما مع فكرها الديموقراطي ودفاعها عن حق الشعوب في «لغاتها»... ب. إن اللغة، بوصفها كيانا اجتماعيا (بالمعنى السوسيري وليس بالمعنى اللابوفي)، لكي تقوم وتمعير ويعاد إنتاجها وتعمم وتوحد، ينبغي وضعها في التعليم، والتعليم بحاجة إلى مقررات، والمقررات بحاجة إلى وصف نحوي للغة، في مختلف مستوياتها، المعجمية والتركيبية والصرفية والدلالية والصوتية؛ والدارجة المغربية لم يوصف منها ولو باب من أبوابها النحوية، وأحرى أن نضعه في كتاب مدرسي، ولا نملك معاجم لها، بل لا نملك حتى الوصف الصوتي البسيط لفونيماتها وللقواعد الصوتية المؤلفة لبنية الكلمة. والأدهى والأمر أنه لا توجد نصوص في هذه اللغة، نصوص تفرض نفسها ولا تفرَض؛ وهي الهواء الذي تعيش به أي لغة. في الجوهر هذا عن الجانب النحوي. وماذا عن الكتابة؟ يعتقد البعض أن المسألة سهلة، إذ لدينا الحروف العربية. وهذا غير كاف. فالكتابة نظام سيميولوجي تمثيلي بصري يعبر عن التمايزات الصوتية، والتمايزات الصوتية والنحوية المبنية في الدارجة ليست هي التمايزات الصوتية والنحوية المبنية في العربية المعيار. فهل لغة بهذا الفقر الوصفي الكبير قادرة على التعبير؟ وهل يمكنها أن تغطي الوظائف التي تقوم بها اللغة العربية الآن؟ (عندما أقول الفقر الوصفي، لا أعني أنني أحتقر هذه اللغة، بل أعني أننا نفتقر إلى الوصف الذي من شأنه تم جعلها لغة تعليم ومدرسة). د. المشكل الأساس في المحاضرتين أنهما تحاولان الانطلاق من فراغ. وكأن الموضوع لم يناقش، ولم يكتب فيه شيء. يضاف إلى ذلك تحجر التفكير وامتطاء بعض الأفكار السهلة الجاهزة، مما يشجع «الدارس» على إعطاء الخلاصات والدروس في مجال لا يفقه فيه شيئا، متوهما أن «معلوماته» في مجال تفقهه قابلة للانسحاب على المجال المعتدى عليه؛ وبالطبع، فهذا الصنيع لا يمكن أن تحركه إلا دوافع وقناعات غير علمية. يحاول بعض «الدارسين» إقامة ربط بين ما يمكن التوصل إليه من «اجتهادات علمية» وما يُفترَض أن البلاد تعرفه من «أجواء تغيير» ومن «انتقال ديموقراطي». وفي هذا الإطار، تحاول ورقة الندوة أن تربط، بصورة ضمنية، بين مرحلة سابقة اتسمت بالأسلوب التسلطي في تدبير المسألة اللغوية وبين مرحلتنا الحالية التي تتسم بالوعي بخطورة هذا الأسلوب، وبتحديد «الأزمة»، وطرح أسئلتها ومناقشتها، بغية التوصل إلى رؤية استراتيجية للسياسة اللغوية والثقافية. وفي هذا الإطار، تختزل ورقة الندوة كل مشاكلنا في المسألة اللغوية، وهذا أمر غير صحيح بالطبع. فعلى طريقة مقدم شهير لأحد البرامج الحوارية بقناة معروفة، تتوالى الأسئلة التأكيدية في الورقة التقديمية، ولعل أهمها وأشدها ارتباطا بالفكرة المشار إليها أعلاه، السؤالان التاليان: «ألا يكمن مصدر الأزمة الثقافية والمجتمعية والدستورية العامة الحالية في الأسلوب السلطوي الذي اتخذته الدولة لفرض اختياراتها اللغوية؟ ألا تبدو هذه الأخيرة وكأنها قرارات تقفز على النشاط الديمقراطي الواسع الضروري لإقرار الإجماع الشعبي الكفيل بترسيخها في بنية وضمير المجتمع؟». و«تعمق» الورقة هذه الأسئلة من خلال ما أسمته القلق اللغوي أو عودة النقاش المرجأ، إذ تلاحظ أن «المسألة اللغوية صارت اليوم موضوع نقاش واسع تشارك فيه مختلف فعاليات المجتمع المدني والسياسي». وتضيف أننا «اليوم أمام ما يشبه عودة المكبوت وانبعاث المغمور وتصاعد قلقنا اللغوي الدفين إلى سطح وجودنا الثقافي والسياسي». وبالطبع، لا توجد علاقة بين هذا وذاك، بل إن ما يفترض أنه انفتاح وانفراج، وهو ما تومئ إليه الورقة، ليس سوى وهم وعنوان أسطوري لمداراة وهج الحقيقة الساطعة: غياب الديموقراطية، وهيمنة الصوت الواحد، والاتجاه الواحد، وتكريس الجهود، مقابل ذلك، لتزيين الواجهة لا غير، ولترديد اللازمة المعروفة، وإلهاء الناس بخطاب التغيير عوض التغيير... بل إن هذا الخطاب «اللغوي» الجديد نفسه يدخل في هذا النوع من التزيين الإلهائي. في الحداثة يعتقد البعض أن الحداثة تدرك بلغة الغير، أي باللغة الفرنسية. وهذا عين التبسيط. التصور الفرنكوفوني يستجلب الأهمية والقوة لنفسه عندما يجعل «الفرنسية» مقاوما للفكر الأصولي. بعضهم يقول إن السلاح الذي ينبغي مواجهة الأصولية به هو الفرنسية. وهذا أمر غريب. إنه يضع نفسه في مقابل تيار شعبوي ليسرق منه هذا الخطاب ويسنده إلى نفسه. فهل هناك من هو أكثر شعبوية ممن يعتقد أن استعمال لغة معينة ونشرها سيصلح أحوال المجتمع؟ وأخيرا، هناك مسار مخالف لهذا التوجه الهدام، وهو مسار يصعب على المدافعين عن الفرنكوفونية التفكير فيه، وفيه تراكم علمي وفكري كبير. ويتلخص هذا المسار في تحديث اللغة العربية من الداخل حتى تستجيب للعصر، وذلك بإنشاء مؤسسات علمية تعمل على تقليص الفجوة بين العربية والدارجة، وتنقح العربية نحويا بما يضمن لها التخلص من بعض الخصائص التي تتفرد بها، وهي خصائص تطورية لم تساعدها هيمنة الفكر المعياري على الاندثار الطبيعي (مثل الإعراب بالحروف وبالحركات، ومثل المثنى، وكثرة الجموع، وبعض التراكيب والأساليب القديمة....)، في سبيل الحصول على عربية تضيق الفجوة مع الدارجة، وتنسجم معها ولا تعارضها. وهذا المسار، المخالف لمستغلي الوضعية المتردية للغة العربية، تزكيه الكثير من الوقائع اللغوية، ومن الوقائع التربوية، ولعلها الأهم: نلاحظ أن الطفل عندما ينخرط في تعلم العربية في المدرسة، تشكل الدارجة عنده (حين تكون لغته الأم) عاملا مساعدا على الاكتساب، خصوصا عندما يتعلق الأمر بما يسمى تحويل القدرة الإيجابي، أي عندما تماثل الخاصية النحوية المراد اكتسابها في العربية ما يوجد في الدارجة. هناك لغة عربية حديثة، على مستوى الوقائع الفعلية، لغة قابلة لأن تقارَب من منظور حديث وعصري، وقابلة لأن يجدَّد فيها النظر لكي تتجدد أكثر. غير أن هناك نظرة منكمشة ترى العربية لغة تراث ودين فحسب. وهذه النظرة، التي تسجن العربية في التاريخ، وتنفي عنها الحياة والتطور، يستعملها «السلفيون» مثلما يستعملها المدافعون عن الدارجة (من أجل الفرنسية)، كل بمعناه. والمعنيان خاطئان كلاهما، نظرا إلى براغماتيتهما: أحدهما يحاول تمييز العربية بالإيجاب، ظنا منه أنه يعلي من شأنها، والآخر يحاول تمييزها بالسلب، من أجل اقتراح «حلول» أخرى؛ والعربية ليست لغة مميَّزة: إنها لغة فحسب.