«استطاع بالتسار غارثون، هذا القاضي الأندلسي القادم من بين أشجار حقول الزيتون في منطقة «خايين»، أن يصنع لنفسه شهرة دولية بفضل الملفات الكبرى التي انشغل بها منذ 17 عاما قضاها في المحكمة الوطنية الإسبانية بمدريد، والتي كان آخرها قبوله النظر في دعوى رفعتها جمعية تابعة لجبهة البوليساريو تتهم مسؤولين مغاربة كبارا بارتكاب «جرائم تطهير عرقي» في الصحراء. يسرد القاضي غارثون، في كتابه «عالم بدون خوف» الذي بيع مثل أرغفة ساخنة في إسبانيا، جزءا من حياته الأولى ومساره في عوالم القضاء والسياسة وعلاقته بوسائل الإعلام التي اعتبر أنها كانت متشنجة». نبيل دريوش
كان عام 1975 متميزا خصوصا بالصراع، جميع الجامعات استجابت للنداءات بالإضراب، كانت المواجهة الثانية لي مع قوات الأمن في شهر فبراير من ذلك العام، أولا في حرم جامعة الحقوق وبعد ذلك في كلية الطب، حيث أحاطت بنا الشرطة وطوقتنا بالخيول وسيارات الجيب وعدة معدات لمكافحة الشغب، أتذكر أنه توفي شخص في ذلك اليوم في إشبيلية، كانت حياته ثمنا للنضال من أجل الحرية. شهدت اسبانيا خلال ذلك العام آخر الإعدامات بالرصاص الحي تنفيذا لأحكام صادرة. إن النظام الذي قام على الدم بعد انقلاب دموي وطور نظاما للقمع الوحشي لا يمكنه أن ينتهي بطريقة مغايرة، بمعنى، تجريب أقصى مستويات القسوة المجانية باسم الشرعية وتطبيق عقوبات الإعدام، يوم27 سبتمبر 1975، هو من التواريخ التي لا يمكن لأي إسباني أن ينساها، لأن تطبيق عقوبة الإعدام وإن مازالت تصدر في حق بعض المتورطين في أعمال إرهابية بيد أنها لم تكن ولن تكون أبدا حلا مناسبا لمواجهة العنف. كانت هناك فقط مظاهرة كشفت عن الفشل النظام الاجتماعي الذي كان يحكمنا. سواء المظاهرات أو الكنيسة أو البابا على رأسها أو قادة بلدان أخرى لم يفلحوا في تخفيف حدة الاحتقان، في فجر ذلك اليوم كان الجميع يخشى أن نعود إلى نفق الزمن بعدما لاحت النهاية قريبة، ذلك اليوم في إشبيلية، كان يوما خاصا: باردا ورطبا ومليئا بالضباب، وكأنني لم أكن أريد أن أعرف ماذا يجري، كان يوما حزينا امتد إلى فاتح أكتوبر عندما تظاهر أزيد من مليون شخص ضد الديكتاتور في الساحة الشرقيةلمدريد. مازلت أتساءل إلى حدود الساعة كيف يمكن لهذا الزحف البشري من سكان مدريد الذين عانوا الكثير من قمع نظام ملطخ بالدم أن يحضروا في الموعد بتلك الطريقة المقلقة، هل كانت هي نفسها مدريد التي تغنى بها بابلو نيرودا بأبيات ملتهبة بعد تعرضها للقصف؟ أمامكم رأيت الدم لاسبانيا الناهضة من أجل أن تغرقكم في موجة واحدة من الفخر والسكاكين جنرالات خونة: انظروا إلى منزلي الميت انظروا إلى اسبانيا الممزقة. لا، تلك ليست مدريد التي شاهدت الدم البريء يجري في عروقها والتي بعد سنوات طويلة، مثل ذكرى مرعبة، عادت لتعيش نفس المشهد في 11 مارس 2004، وهي الأحداث التي لم تكن تمثلنا نحن أولئك الذين أرادوا أن يطردوا الخوف من المكان المريح الذي يقبع به منذ أربعة عقود، إنها وحدها جرعة كبيرة من القلق متجمعة بفعل توالي سنوات القمع الذي تمارسه السلطة ووسائل الإعلام الرسمية يمكنها تفسير تلك المظاهرة، لكن ذلك رسخ في دواخلي قناعة بأنه وحدها الدراسة والتوافق على الحرية والديمقراطية يمكنهما أن تقدم من أجل القضاء على تلك الوضعية التي لم تكن تتوافق مع العصر. كانت سنوات النضال والحلم، لكن أيضا سنوات العمل الشاق، وذات مرة تناقشت مع ابني بالتسار الذي حاولت أن أشرح له دون أن أكون ثقيل الظل، أن المسؤولية والعمل يتماشيان مع جرعة من الترفيه، لا شيء مكتوب غير الماضي، المستقبل يلوح لنا دائما مثل أمل يجب أن نناضل من أجله ونشكله يوما بيوم بمجهودنا وعزمنا وإلحاحنا، جميعنا نملك رؤية شخصية للعالم والناس الذين يقطنونه. الكثيرون منا إما بالتزام شخصي فطري أو مكتسب يحاولون المساهمة في تحسين هذا العالم رغم أن آخرين يجهدون أنفسهم من أجل القضاء عليه. من أجل مواجهة هؤلاء الذين يريدون تعميق الهوة بين الأقوياء والضعفاء، فإنهم من الواجب أن نقتنع ونعتقد بما نفعله، التحرك بناء على رغبة ونظام، إذا كان ما يحرك المرء هو الأجرة فقط، فإنه سيخسر، وهو ما يقع في مهنة القاضي، توجه انتقادات اليوم للأجيال الجديدة من القضاة الذين يلجون سلك القضاء باعتباره تقليدا عائليا وليس لرغبة في ممارسته، بل أحيانا يمارسون هذه المهنة لأنهم في حاجة إلى عمل. لا أفهم مهنة القضاء إلا إذا كانت تمارس بدافع الرغبة، ذلك هو مثالي، تعلمت معرفتها بعد ممارستها، لكنني أشعر بنفسي منجذبا بحاجة ملحة لتحقيق العدالة والقيام بذلك باعتباره خدمة عمومية ولم أفكر أبدا في الأجر الذي سأتقاضاه والامتيازات التي سأحصل عليها، لم أحتج يوما إلى الأجر الذي أتقاضاه، وأعتقد أيضا أن البعض ليسوا جديرين بالأجر الذي يتقاضونه، فالفروق بين القضاة والمدعي العام ومتعاوني الإدارة كبيرة وغير عادلة.