في الاتجاه المضاد بالموازاة مع تشكيل المجلس الأعلى للمغاربة القاطنين بالخارج، الذي خلف أسلوب تعيين أعضائه ردود أفعال قوية في صفوف مغاربة المهجر، لاسيما في فرنسا وهولندا وبلجيكا، تتوزع مواكبة مغاربة بريطانيا، خصوصا من يقطنون بلندن، بين اللامبالاة أو التذمر. اللامبالاة يجسدها القطاع الواسع من المواطنين العاديين، أي الفئة العريضة التي من أجلها جاءت فكرة المجلس، أما الشعور بالتذمر فاستشعاره سهل لدى الفئة الأكثر نضجا ومتابعة لما يجري في الوطن الأم من تطورات. وبينما عبرت سعاد طالسي، ممثلة مغاربة المملكة المتحدة في المجلس المذكور، في حوار سابق لها مع «المساء»، عن رغبتها القوية في تشكيل لوبي مغربي حقيقي في بريطانيا، دون أن تخفي معارضتها لطريقة الانتخاب هنا، والتي قالت إنها كانت سيعيقها واقع القبلية، يبدو أن معطى القبلية سيضع تفاؤلها فعلا على محك حقيقي. ومن خلال لقاءات متفرقة ل«المساء» مع فعاليات مغربية من الجيل الأول والثاني، تبين أن الواقع لن يرتفع وأن معركة تغلي على مهل تلوح في الأفق. وبعيدا عن طالسي وما ينتظرها من صعوبات في لم شمل مغربي منقسم على ذاته هنا، استمزجت «المساء» أراء عدد غير قليل من أبناء الجالية المغربية في لندن حول سؤال محدد: هل يعيش مغاربة بريطانيا واقعا قبليا؟ كانت الإجابات تصب في الاتجاه «نعم». وبلغة لا مساحيق عليها تحدث البعض عن أن «المغاربة في بلد التسامح مازالوا غير متسامحين مع بعضهم»، وذهب آخرون إلى حد التعبير عن وجود واقع عنصري بين أبناء الشمال وماعداهم من أهل «الداخل»، في استنساخ مقيت لخطاب بال كان يجب التخلي عنه مادمنا نعيش في الألفية الثالثة. ومن الغريب، يقول شاب مغربي في عقده الرابع، أن تجد مغاربة عاشوا هنا عقودا من الزمن لم يتغيروا إلا على مستوى البشرة بفعل أحوال الجو، بينما مازالت عقلياتهم الضيقة «سليمة» لم تغيرها أحوال العالم المتسارع ولا زاد في اتساع أفقها توسيع الاتحاد الأوربي من حولهم. غير أن فئة أخرى من المغاربة، وهم شبان متعلمون إما ولدوا في بريطانيا أو هاجروا إليها قبل سنوات يرون أن الداء كله يكمن في الجيل الأول ورواسبه. وإن شئنا تلخيص رأي هؤلاء وتجميع شظاياه في عبارات مفهومة، فلن نجانب الصواب إن قلنا إنهم يريدون الآتي: أن يقر الجيل الأول الذي مازال يصر على لعب دور ما، بأنه وصل سن التقاعد وأن عليه الانسحاب والخلود إلى الراحة مشكورا على ما بذل من جهد وتضحيات، أن يعترف الآباء بأن أغلبهم ليس لديه أي مستوى ثقافي ولا سياسي يخول له أي دور في هذا الزمن الأوربي المعقد. إن إصرار البعض على التمسك بدور تمثيلي موروث من العهد السابق إنما يزيد في يأس الجيل الحالي المتمدرس من حصول أي انعطافة في تأطير المغاربة ببريطانيا وتوجيه طاقاتهم في الاتجاه الفاعل. أين المغاربة من معركة العمودية؟ بينما الجالية المغربية لاتزال غارقة في مشاكلها الصغيرة المعقدة، لاحت في أفق لندن بوادر لوبي انتخابي عربي إسلامي، ولعله الحلم الذي طالما ردده أبناء الضاد وأبناء الأمة الإسلامية في الخارج والداخل، ليكون لهم لوبي ضاغط في صناعة السياسة في الغرب. والذي وحد المسلمين، الذين عزت رائحة توحدهم، هذه المرة ليست القضية الفلسطينية ولا العراق بل عمدة لندن. فقد بدأ فعلا منذ أيام قادة الأقلية المسلمة في بريطانيا تعبئتهم لدعم كين ليفينغستون للظفر بولاية ثالثة في الانتخابات البلدية المقررة في شهر ماي القادم. ويبدو أن في الأمر مكافأة للرجل على مواقفه المساندة للعرب والمسلمين في بريطانيا، وعاصمتها لندن تحديدا. وحزم زعماء الجالية المسلمة في لندن أمرهم على شد أزر العمالي ليفينغستون في معركته الانتخابية المقبلة، وقالوا في بيان وقعه ثلاثة وستون من الزعماء: «نتعهد باستمرار دعمنا لعمدة لندن على كافة المستويات الممكنة لتأمين بقائه في المنصب لفترة ثالثة». وعبر الموقعون على البيان عن أن التصويت لصالح ليفينغستون يخدم مصالح المسلمين في لندن، لأنه برأيهم «أظهر دعمه لمجتمع متعدد الثقافات، والأقلية المسلمة في المدينة في مواجهة العنصرية والإسلاموفوبيا، كما دعم الأقليات الأخرى ضد كل أشكال التمييز». ووصف احتشام هبة الله من منظمة المبادرة الإسلامية جهود عمدة لندن بالرائعة «لمساعدة المسلمين أكثر من منافسه بوريس جونسون المرشح، عن حزب المحافظين، وبرايان باديك من الديمقراطيين الليبراليين.. إنه يدعم الحرية الدينية، والتزم بتطوير قدرات الأقليات المهمشة، كما يقوم بعمل عظيم في الوحدة الاجتماعية». ومن الأسماء الوازنة الموقعة على البيان، كان أنس التكريتي، المتحدث باسم الرابطة الإسلامية في بريطانيا، والدكتور عزام التميمي الباحث في معهد الفكر السياسي الإسلامي، وعنايات بانجلوال، مساعد الأمين العام لمجلس مسلمي بريطانيا، والرئيس السابق للمجلس الإسلامي البريطاني إقبال سكراني. وتلقى عمدة لندن البيان بفرحة غامره، مسجلا بفخر الواثق أن «أكثر الإنجازات فخرًا لي خلال السنوات السبع الأخيرة هو هبوط الهجمات العنصرية في لندن بنسبة ستين في المائة»، معتبرا أن «القواعد الأساسية لانفتاح لندن هي أن كل لندني يجب أن يكون قادرًا على العيش بحرية، حيث يختار الحالة الروحية التي لا تمنع الآخرين من فعل المثل». وكان ليفينغستون قد فاز بمنصب عمدة لندن للمرة الأولى عام 2000، وفي عام 2004 فاز بالمنصب ذاته للمرة الثانية. يحدث هذا في صفوف المسلمين، بينما قرر أمناء المسجد المغربي الوحيد طرد الإمام المغربي نهائيا، في حين لجأ هو إلى القضاء. مناقب العميد الثائر لليفينغستون صفتان لا تجتمعان بسهولة في شخص في مثل وزنه، فهو يقطر تسامحا ومضرب المثل في الصلابة والثبات. وقد تعرض إلى امتحانات عسيرة نجمت عن مواقفه المعادية لسياسة العدوان الإسرائيلية وموقفه من الحرب على العراق. ومواقفه المناصرة للحق العربي تعود إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في ثمانينيات القرن الماضي، حينها ساءت علاقاته باليهود البريطانيين ومجلسهم، عندما عارض الاجتياح الإسرائيلي للبنان بل طالب حزب العمال بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. ودخل الرجل في صولات وجولات مع من اتهموه بمعاداة السامية فيما عرف قبل ثلاث سنوات بقضية صحافي اللإفنينغ ستاندرد، الذي شن حملة ضد العمدة لم تهدأ نارها بعد. وتعتبر تهمة «العداء للسامية» في دول الغرب من أخطر التهم التي قد يتعرض لها أشخاص بارزون، لكن ليفينغستون لم يعتذر إلى اليوم للصحافي اليهودي فاينجولا، وظل مصرا على ضرورة التمييز بين الانتقادات الموجهة إلى السياسة «الإسرائيلية» وبين «معاداة السامية». وليفينغستون من الأصوات القليلة الوازنة التي تغرد خارج السرب الغربي، ولا يمكن مقارنته في مساندة القضايا العربية سوى بالنائب المتمرد جورج غالاوي، فكلاهما معارض في غاية الصلابة للسياسة الأمريكية البريطانية في العراق ومناهضان لجميع أشكال الاحتلال. ولعل هذه المواقف اللافتة في زمن السكوت هي التي جعلت البعض يلقب عمدة لندن ب«كين الثائر» و»كين الأحمر» لما له من جنوح نحو التحدي والمجابهة. ومثلما وصف شارون بمجرم الحرب، استقبل جورج بوش خلال زيارته العاصمة البريطانية سنة 2003 بتصريحات نارية حين اعتبره «التهديد الأعظم للحياة على الأرض». وإمعانا في إغاظة بوش، دون اكتراث بطبيعة العلاقات بين لندنوواشنطن، رفض إقامة حفل استقبال رسمي للرئيس الأمريكي في مقره بصفته عمدة المدينة. وعلى الصعيد الإسلامي، يعرف عن عمدة لندن تحذيره حكومة بلاده من الاقتداء بالجارة فرنسا في ما يخص منع الحجاب. وعندما شن اللوبي اليهودي في بريطانيا حملة ضد العلامة يوسف القرضاوي صيف 2004 لمنعه من دخول بريطانيا بهدف المشاركة في مؤتمر حول الحجاب كان مقرراً بعد شهرين لاحقا، تمرد ليفينغستون ضد المألوف وقاوم تلك الحملة بل قدم اعتذارا للقرضاوي ورعى المؤتمر، وفي ذات الوقت أرسل برقية إلى رئيس الوزراء الفرنسي، حثه فيها على إعادة النظر في التضييق على الحريات الدينية الأساسية في فرنسا، محذراً إياه من مغبة أي تمييز ديني ضد الحرية الدينية للمسلمين. ويوجد في موقع يوتوب تسجيل لعمدة لندن وهو يستقبل عدو بوش، الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، وكيف تناغم الرجلان في ما ذهب إليه تشافيز من آراء في بوش وحربه على العراق وداء الامبريالية. ومن سخرية الأقدار السياسية أن العرب والمسلمين في بريطانيا، بما لديهم من إمكانيات بشرية واستثمارية، لم يستطيعوا إلى حد الآن أن يثبتوا، لا لأنفسهم ولا لغيرهم، أنهم قادرون على التكتل في موقف ما حول قضية ما، إلى أن انقشع قليل من الغشاوة على بصيرتهم أخيرا، ورأوا في عمدة لندن حائطا يمكن إسناد ظهرهم المثخن بالخيبات إليه. العالم جسم عضلاته في أمريكا وعقله في بريطانيا العنوان أعلاه ليس حكم قيمة ولا هو غشاوة انبهار، بل حقيقة يصل إليها كل من خبر أهل جزيرة كبيرة تسمى المملكة المتحدة.. واطلع عن قرب على تاريخ ومنطق التفكير البريطاني. جل بلدان الغرب أصيبت بسعار التوسع في القرون السابقة وعادت أدراجها بعد أن فتكت وخلفت دمارا ونزاعات حدودية وعطشا للانتقام بين الدول والقبائل لم تروه الدماء. ثم ماذا؟ عادوا أدراجهم فاتكين. أما بريطانيا فقد اكتسحت الكوكب كله وهندست كثيرا من سياسات ونظم العالم الحديث، وحين انتهت حقبة فيكتوريا وانكمشت الإمبراطورية داخل حدودها الطبيعية مع بقايا كصخرة جبل طارق وجزر الملوين، لم ينته التأثير الإنجليزي رغم أخذ أمريكا، الابن مفتول العضلات، عصا الشرطي الأب فحدثت المفارقات. أمريكا تسيطر على الإعلام والتكنولوجيا، وبل غيت يستأسد بميكروسوفت، لكن من اخترع الأنترنيت بريطاني قدمه هدية للبشرية ولم يكترث لبراءة الاختراع، وهو السير تيم بيرنرز لي. أمريكا تريد تصدير فائضها الديمقراطي إلى العرب رغم أنفهم، وبريطانيا تحتفظ بوثيقة «الماغناكارتا» وتجدد آليات التعاقد الاجتماعي ليل نهار. واشنطن ونيويورك نطحتا السماء بمبانيهما الخرافية، ثم أصبحتا خائفتين من التعرض لنطحات مثل الحادي عشر من سبتمبر، بينما رؤية لندن من الطائرة يجعل المسافر يتساءل إن كانت هذه هي لندن التي سمع عنها. مبان واطئة تبدو لابدة تحت الأشجار ومعمار فيكتوري يحتفظون به كما الجدات يحتفظن بمهر غال في صندوق خشبي قديم. أمريكا تقاوم محاولة إدخالها نادي مكافحي التلوث وأنصار السلام الأخضر، وثلث مساحة لندن حدائق يصعب وصف جمالها. يتمرد الابن العربيد في البيت الأبيض على الأب العاقل بدعوى العلاقات المتميزة، فيجاريه الأب الرسمي، ويتظاهر الشعب الرافض ليقول للتاريخ سجل. يتورط الابن الغر في أوحال التدخلات الخارجية، لكن الأب الامبريالي المجرب يعرف كيف ينسحب بخسائر أقل، حتى إذا عاد جنوده من بلاد الرافدين إلى المهانة باعوا مذكراتهم للصحف الغنية واغتنوا عن الخدمة العسكرية نهائيا. وقع الدولار في حب الذهب والبترول زمنا طويلا، وظل الجنيه رافضا دخول معمعة العملة الموحدة. حاليا تمر الورقة «خضراء الدمن» بأحلك فتراتها، بينما الجنيه لا ينزل ببضع سنتات إلا ليعاود الصعود أكثر فأكثر. سواء وصل أوباما إلى البيت الأبيض أم تعثر سينتهي احتلال أمريكا للعراق حتما، لكن بندقية صدام الذهبية ستبقى لتذكر أجيال الأمريكان اللاحقة بما فعله التتار الجدد، لكن هيلاري كلينتون، ضرة مونيكا، قطعا لن تكون أبدا المرأة الحديدة في واشنطن. بوش يتمنى لو يطرد كل المهاجرين غير الشرعيين لأنهم خطر اقتصادي، ويفتح باب القرعة سنويا لبلدان مثل المغرب كي تصبح بعض بناته مقاتلات في العراق، ولندن تفتح الأذرع للعقول القادمة من كل فج مسحوق أهله بتسهيلات في الهجرة، حتى إذا أنجبوا تحسن النسل واستمرت المسيرة التنموية بدماء طرية. لقائل أن يقول إن القنافذ ليس فيها أملس. كلام صحيح بيئيا، إنما هي قنافذ تعرف كيف تسلك بجلدها غير مخدوش من بين ثنايا الأحراش في البراري، بينما أسودنا وفهودنا وفرساننا يتعثرون قبل بداية الرحلة أصلا. عضلات كوكبنا الجميل في أمريكا، وتحت العضلات مفاصل تشتكي الروماتيزم الاقتصادي والأخلاقي. وهنا العقل الذي إن اشتكى له الذباب عسر التنفس اجتمعت لجنة طوارئ حتى تنقذ البلاد من الخطر.