في مقال سابق، تحدثنا عن حضور الشخصية العربية في السينما العالمية وكيف نمذجتها هذه الأخيرة في قالب جاهز مبني على أحكام قيمة مسبقة لم تتطور مع الزمن، حيث بقيت حبيسة رؤية استعمارية متعالية مع استثناءات قليلة حاولت التعامل مع تلك الشخصية بحيادية حينا وبإيجابية أحيانا أخرى. وفي المقال الحالي، محاولة للبحث عن الصورة المقابلة من خلال التعريف بتمثلات الآخر في مختلف الإنتاجات السينمائية العربية. إن استعراضنا لمجموع الإنتاج السينمائي العربي يحيل على حقيقة أن الآخر قدم، في الغالب، إما على مستوى الانتماء الجغرافي (المستعمر أو الخواجة) أو على مستوى الانتماء الديني (مسيحي أو يهودي) وفي أحيان كثيرة كمواطن منحرف وهامشي ليس بإمكان المجتمع إلا التخلص منه أو إبقاؤه على الهامش أو معاقبته أو إعادة إدماجه بعد علاجه من علاته. هكذا، تمت نمذجة الشخصية المسيحية كمدبر ملكية والشخصية اليهودية كتاجر عديم الذمة بشكل يظهرهما خارجين عن دار الإسلام، ومن ثم تصنيفهما باعتبارهما عدوين وعنصرين كافرين فاسدين ومفسدين وجبت معاداتهما ومحاربتهما. فالسينما المصرية، مثلا، ركزت اهتمامها على الآخر اليهودي بالأساس وعلى مرحلتين مختلفتين: الأولى امتدت من بداياتها إلى حدود سنة 1956، ظهر فيها اليهودي بشكل أقرب إلى «الواقعية» مع الحفاظ على السمات العامة لشخصيته في الموروث الشعبي، مثل البخل والكلام بلكنة معينة، دون أدنى اهتمام بطقوسه الدينية أو حتى حياته الأسرية التي يمارسها داخل بيته كعامة الناس، على عكس ما قدمت به الشخصية المسيحية مجسدة بوضوح في شريط «حسن، مرقص وكوهين»1954 للمخرج حسن الجزايرلي، وقبله فيلم «فاطمة وماريكا وراشيل» 1949 لمخرجه حلمي رفلة وقبلهما سلسلة أفلام قدمها توغومزراحي المزداد بالإسكندرية، المشارك في تأسيس أول نقابة للسينمائيين المصريين مع أحمد بدرخان، مثل «5001»، «شالوم الترجمان»، «شالوم الرياضي»، «المندوبان»، «العز بهدلة» وهي الأفلام الوحيدة التي لعب خلالها اليهودي دور البطولة بهويته الدينية. أما المرحلة الثانية، فتمتد من سنة 1956 إلى اليوم، وعرفت ظهور اليهودي العدو، الجاسوس والصهيوني، خصوصا بعد انطلاق موجة أفلام المخابرات والحروب التي دارت رحاها بين العرب والكيان الإسرائيلي. وفي خضم تطور علاقة السينمائيين العرب بالآخر، تغيرت صورة هذا الأخير شيئا فشيئا، إذ لم يعد مع رأفت الميهي (مصر) ولخضر حامينا (الجزائر) ورضا الباهي (تونس) وغيرهم مجرد آخر أنموذجي يتم تصويره بطريقة كاريكاتورية بل أصبح شخصية سينمائية لها تاريخها الخاص، بل إن هذه النظرة ستبلغ ذروتها في شريط «رجل السد»1986 للمخرج التونسي نوري بوزيد، مع شخصية الشيخ اليهودي الحنونة في علاقتها بالشاب التونسي المسلم الخجول المقبل على الزواج دون انمحاء الآثار النفسية لتجربة الاغتصاب التي سبق له التعرض لها في صباه. وإذا كان هذا الشريط مجرد استثناء، فإن القاعدة ظلت حبيسة النموذج اليهودي المعروف خصوصا في السينما والدراما المصريتين بفعل «العداء» التاريخي الذي حكم ويحكم العلاقة بين مصر وإسرائيل على المستوى الشعبي الرافض لاتفاقيات كامب ديفيد المبرمة بين الطرفين منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بل امتدت هذه الظاهرة لتشمل أيضا بعضا من الأفلام الكوميدية المصورة في السنوات الأخيرة من قبيل «صعيدي في الجامعة الأمريكية» و«همام في أمستردام» التي لعب دور البطولة الرئيسية فيها الممثل الكوميدي محمد هنيدي، حيث حرق العلمين الإسرائيلي والأمريكي في الأول، وتقديم شخصية شاب يهودي مخادع وحقود في الثاني...إلخ.والأكيد أنه لا يمكن الحديث عن الآخر في السينما العربية دون الرجوع إلى تجربة يوسف شاهين ومدرسته السينمائية. فمنذ فيلمه «عودة الابن الضال» 1976، حيث يحلم البطل بتخطي واقعه بالهجرة إلى أمريكا مرورا بالجندي الإنجليزي الظريف في «اسكندرية ليه» والجنرال المستنير المثقف والإنساني في «وداعا بونابرت» والفارس الأوربي النبيل ريتشارد قلب الأسد وزوجته لويزا في «الناصر صلاح الدين» قبل ذلك... نجد الآخر الديني والجغرافي حاضرا بقوة في «المشروع السينمائي الشاهيني»، حيث يظهر مؤنسا، وديعا، مثقفا وقابلا للتواصل الإنساني رغم أنه يشكل جزءا من المشروع الاستعماري (جندي، جنرال، ملك، أمريكا....)، مما دعا النقاد إلى اتهام شاهين بقصور نظرته إلى الآخر وتجاهله معطيات تاريخية مؤكدة تجعل الصورة التي يقدمها عنه مبتورة ومنتقاة وكأنه يرى هذه العلاقة بنصف عين. هذا السعي المضني إلى التواصل مع الآخر المنطلق من منظور حوار الحضارات وعالمية الثقافة، كما يدعو إليه كثير من المثقفين العرب من أمثال إدوارد سعيد (الذي ظهر ممثلا في فيلم «الآخر»)، كان حاضرا دوما في أفلام يوسف شاهين خصوصا بعد ارتمائه الاضطراري في أحضان الإنتاج المشترك، وهو ما تكرس بشكل أكثر كثافة في «المهاجر»، حيث شخصية العبراني رام الذي أنقذ مصر من الخراب، و«المصير» مجسدا في شخصية جوزيف المسيحي الذي يحاول الاحتفاظ بكتابات ابن رشد والهروب بها من الحرق والإتلاف، ثم في شريط «الآخر» – هكذا صراحة- الذي يصبح فيه مشروع مجمع الأديان عربة حاملة لتلك الرغبة الدفينة لدى شاهين في التوحد مع الآخر(أمريكي/ يهودي وأوربي/ مسيحي) وربما الارتماء في أحضانه كلية، رغم كل هذا التاريخ الخاص بالعلاقات الفعلية / الاستعمارية، حيث تطابقت المؤسسة الدينية اليهودية مع المشروع الاستعماري الصهيوني، وحيث لعب التبشير المسيحي من خلال مؤسساته الدينية دور الكتيبة الفكرية للمشروع الاستعماري الأوربي.وفي إطار نوع من التصالح مع الذات، أصبح حضور الشخصية المسيحية في السينما المصرية كثيفا وفي أدوار البطولة أيضا، كما هو الشأن في أفلام «مرسيديس»1993 ليسري نصر الله، «أحلام صغيرة»1993 لخالد الحجر...إلخ، حتى إن بعضها تعرض لمشاكل رقابية مع الكنيسة، كشريط «بحب السيما» 2004 لمخرجه أسامة فوزي الذي تدور أحداثه عام 1960 في القاهرة حيث يحلم الطفل «نعيم» بأن يصبح مخرجا سينمائيا، لكن العائلة وتربيتها المسيحية الصارمة تحول دون ذلك، وقد تعرض الفيلم لانتقادات وجدل في مصر بسبب نظرته المتحررة إلى المسيحية التي ينتقد من خلالها كل تزمت ديني أو اجتماعي. كما حاولت موجة الأفلام الكوميدية استغلال هذا التوجه بشكل سطحي وفارغ من أية رؤية فكرية هادفة كما كان الحال مع «همام في امستردام» مثلا، في تقليد بليد للنهج الرسمي للدولة بعد تنامي الدعوات، داخليا وخارجيا، لإعادة الاعتبار إلى أقباط مصر. هذا التوجه الذي ظهرت آثاره أكثر على الدراما التلفزية في أرض الكنانة وإن بشكل يدعو إلى السخرية والرثاء في أحايين كثيرة رغم تميز عدد من المسلسلات في تناولها للموضوع من قبيل «أوان الورد» و»بنت من شبرا»، مثلا. وفي أفلام المغرب العربي، ظل الأوربي لسنوات طويلة مجسدا للنظرة الاستعمارية المستغلة لثروات البلاد خصوصا في الأفلام المؤرخة للمرحلة الاستعمارية، وتبقى التجربة الجزائرية مثالا حيا على ذلك تحقيقا لرغبة الدولة الجزائرية الممولة لتلك الأفلام في استغلال ذلك الموروث الاستعماري لأهداف آنية وقتها. ومن جانب آخر، بقيت صورة الأوربي المشغل المستغل لعرق المهاجرين أو العنصري الذي لا يتحمل وجود الجالية المغاربية على أرض بلاده حاضرة دوما في الأفلام التي تناولت أوضاع المهاجرين بأوربا من قبيل «مكتوب» 1970 للمخرج الجزائري علي غانم، «السفراء» 1975 للتونسي ناصر قطاري، «عبور» 1982 للمخرج التونسي محمود بن محمود، «شاي بالنعناع» 1983 للجزائري عبد الكريم بهلول، «الصورة الأخيرة»1986 للجزائري محمد الأخضر حامينا، في حين لم تهتم السينما المغربية كثيرا بهذا الموضوع خلال السنوات الماضية إلا في إشارات قليلة لم تكن تتخذ الموضوع أساسا لأحداثها كما في « للا حبي « 1996 لمحمد عبد الرحمان التازي في مشهد صوّر اعتداء جسديا تعرض له الحاج بنموسى من طرف منتمين إلى منظمة يمينية متطرفة. لكن إنتاجات السنوات الأخيرة عرفت ظهور هذا الآخر الأوربي في أفلامها كما في شريط «عطش» 2001 مثلا لمخرجه سعد الشرايبي، حيث قدم شخصية ضابط فرنسي إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب بكثير من الإيجابية إلى درجة يصعب معها تصديق كون الشريط يعالج تلك المرحلة من تاريخ المغرب، وهو نفس ما قام به نور الدين لخماري في شريطه «النظرة»، حيث قدم لنا شخصية مصور حربي فرنسي قرر المجيء إلى المغرب خمسين سنة بعد مغادرة القوات الفرنسية لإعادة الاعتبار إلى المقاومين الحقيقيين وإبداء ندمه على سكوته عن «فظاعات» الماضي الاستعماري. وفي نفس إطار الانبهار بالآخر، قدم حسن بنجلون في فيلم «محاكمة امرأة» 2000 نموذجين أكثر من إيجابيين من خلال المحامية الفرنسية التي تصل من بلدها إلى المغرب للدفاع عن راقصة متهمة بقتل زوجها وإنقاذها من الحيف الذي لحقها من جراء لامبالاة الجهاز القضائي المغربي المعتمد على نصوص قانونية بالية، إضافة إلى العاشق الفرنسي الذي يقدم كل ما يملكه لتطليقها من زوجها ذاك والهروب بها وبابنتها إلى فرنسا بلد الحريات....إلخ. من جانب آخر، اهتم عدد من الأشرطة المغاربية برصد مجموعة من المظاهر المتعلقة بما يطلق عليه السياحة الجنسية التي تحولت بلدانها إلى مقصد رئيسي لممتهنيها، ففي شريط «بزناس» 1992 يقدم لنا المخرج التونسي نوري بوزيد نماذج لسياح ذكور ألفوا إشباع رغباتهم الجنسية مع الشبان والفتيات المحليين على الشواطىء التونسية، ولنساء أوربيات أيضا يقصدن البلدان المغاربية رغبة في فحولة مفترضة في أبنائها، وهو ما قدمه المغربي محمد اسماعيل أيضا في شريطه «وبعد...» 2002 من خلال علاقة مصطفى (رشيد الوالي) ولورا (فيكتوريا أبريل) من جهة، وليلى (سهام أسيف) وميغيل (إيف موران) من جهة أخرى...إلخ. وتلك تيمة استغلتها الأفلام المصنوعة أوربيا بشكل أوفر كما رأينا في المقال السابق لإظهار شبقية الشخصية العربية بجنسيها.