لقد عشنا في زمن كان كل شيء بخير، سياسة «كولو العام زين» التي أُجْبرنا على اتباعها لسنين، نضع رؤوسنا وسط الرمال كنعامة خائفة، فيما عيوبنا ظاهرة للعيان..كل شيء كان على ما يرام حتى أن المرء كان يخشى أن يفتح فاه ليتثاءب كي لا يظنوه سيصرخ ويُلفّقوا له تهمة الاحتجاج، كان الناس يخْشَون ظلهم خوفا من أن يكون مخبر ما يلاحقهم كما روى لنا «بزيز» في أحد أعماله الساخرة التي كنا نقتنيها في صمت ونستمتع بها في الكتمان. مرت سنين أليمة كان الرأي الحق والكلمة الصادقة يقودان إلى الزنازن والاختطاف والاختفاء القصري، وحل عهد آخر لنقترح طيّ صفحة الماضي ونُقرر الاستماع ونُعلن المصالحة. الغريب أن هناك من لم ينس، أو يرفض أن ينسى..فقد تغيرت أشياء كثيرة من حولنا ولازلنا نسمع نفس الشعارات، ونفس التبعية والخوف من إبداء الرأي لأجل الإصلاح والتغيير والبناء، أصبح هناك منطق آخر يحكم العلاقات وهو المصالح الشخصية والمكاسب الفردية و«أنا..وبعدي الطوفان». لقد ناضل الإعلاميون والصحفيون كي تنفصل الداخلية عن الإعلام.. انفصلت.. ناضلوا من أجل نقل جلسات البرلمان مباشرة على التلفاز.. ونقلت.. ناضلوا من أجل برامج حوارية مباشرة.. وتحققت.. ناضلوا من أجل صحافة حرة مستقلة.. وصدرت.. لكن المثير للتساؤل هو أن يصبح من دافعوا بالأمس عن الحريات هم من يخنقونها اليوم، من انتقدوا سياسة «كولو العام زين» البارحة هم من يرددونها اليوم، أصبحت المصالح الفردية من يحرك العباد، وأصبح الاحتجاج ليس لأجل المصلحة العامة ومصلحة البلاد، بل سياسة جديدة لكسب المناصب بليّ الذراع، كما يبكي الطفل ويرتمي أرضا ويصرخ ويضرب ليحصل على ما يريد، أو بالانحناء والتملق والاستجداء لنيل الرضا والبركات، فيما لا نستطيع أن نخطو إلى الأمام إلا بالنقد والتوجيه والحوار والاستشارة والاستماع لنبض الشارع من طرف كل المسؤولين كل حسب منصبه دون عُقَد أو صراعات أو حسابات خاصة أو حساسية مفتعلة. كل المدراء والوزراء والقياديين يحتاجون لرأي يسائلهم ويصارحهم ويوجههم ويختلف معهم حبا في البناء لا الهدم، هكذا فقط نتطور ويتحسن أداؤنا ونتجاوز هفواتنا، أما التصفيق والزغاريد والتضليل فأساليب مضت وانقرضت بانقراض السلاطين وقصائد المدح والاسترزاق. انتهى ذلك الزمان، لكنه لازال ممتدا في شرايين من تعودوا أن يكونوا قنطرة يعبر منها غيرهم بمقابل، من تعودوا أن يكونوا لسانا بصوت غيرهم، قلما بكلمات رؤسائهم، وكل شيء بثمن. والمفارقة الجارحة أن بعض المدراء والوزراء يقبلون النقد والنقاش ويتحدثون عن النجاحات والإخفاقات ويستمعون لردود الأفعال بكل موضوعية دون لوم أو حقد أو ثناء أفضل ممن يتحدثون باسمهم ليجاملوهم إلى حين. فهي سلوكات موسمية ومشاعر تتغير لأن «دْوَام الحال من المُحال»، والحقائق تطفوا مهما ظلت مخنوقة في الأسفل.