في ماضي العرب البعيد، كانت بلاد بلقيس تُعرف «باليمن السعيد»، أرض السلام والرخاء التي تمنح أهلها وزائريها رغد العيش والسعادة. بيد أن اليمن تحول في حاضر العرب البئيس هذا، من أفقر البلدان العربية الذي كانه قبل عام، إلى بلد منكوب دمرت مقدراته المدنية والعسكرية بشكل شبه كامل، وتحول أبناؤه إلى شعب مشرد يهيم على وجهه في ملاجئ متفرقة في الداخل والخارج. وسبب النكبة هو الحرب التي أشعلت شرارتها في فجر يوم 26 مارس 2015، عندما أطلقت السعودية «عاصفة الحزم» بغارات جوية شاملة استهدفت معسكرات قوات الحرس الجمهوري اليمني، الخاضعة لسيطرة قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح وحلفائه من مليشيات الحوثيين، فى صنعاء وبقية المحافظات. وجاءت العمليات بعد طلب تقدم به الرئيس اليمني الحالي المعترف به دوليا عبد ربه منصور هادي، لمساعدته على إيقاف الحوثيين الذين كانوا قد أطلقوا هجوماً واسعاً على المحافظاتالجنوبية، وصاروا حينها على وشك الاستيلاء على مدينة عدن [عاصمة جنوب اليمن] التي انتقل إليها الرئيس هادى بعد انقلاب 2014. ومن أجل الرد، شكلت السعودية «تحالفا عربيا» لمواجهة ما قيل إنه طموح إيراني بجعل صنعاء العاصمة العربية الرابعة التي تسيطر عليها طهران، بعد كل من بغداد ودمشق وبيروت. ويتضمن التحالف فضلا عن السعودية، كلا من: مصر، والبحرين، والكويت، وقطر، والإمارات، والأردن، والمغرب، والسودان، والسنغال. وابتداء من 21 أبريل 2015، دخلت «عاصفة الحزم» مرحلتها الثانية التي سميت بعملية «إعادة الأمل». وقد تمكن التحالف من وأد حلم مليشيات الحوثيين في جعل اليمن خنجرا مسموما فى يد طهران تهدد به السعودية ودول الخليج، بحسب ما تشير إليه المصادر الخليجية. حيث تراجع الحوثيون من معظم المدن التي كانوا مسيطرين عليها، مثل عدن ولحج وأبين والضالع وشبوة، والطرق المؤدية إلى تعز. كما خسروا في شمال اليمن مناطق استراتيجية كتعز ومأرب. وبعد عام على انطلاق «عاصفة الحزم»، بات التحالف العربي مسيطرا على 90% من اليمن، وفق مواقع يمنية مقربة من التحالف على الإنترنت. فيما بلغت خسائر الحوثيين البشرية حوالي 10 آلاف قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى والمعطوبين، وفق المصادر ذاتها. أطفال اليمن أول الضحايا لكن الأنكى والأمر في حرب اليمن الحالية أنها تزهق أرواح الأطفال الذين لا يد لهم فيها. فأزمة المياه مثلا، التي نتحدث عنها بتفصيل في موضع آخر من هذه الصفحة، تدفع بأطفال اليمن إلى الخروج لجلب الماء إلى منازلهم، حيث ينتشر ون بالمئات في شوارع المدن على الرغم من اشتعال المواجهات المسلحة والقصف. ولا تنفك وكالات الأنباء العالمية تنقل صورا لأطفال في عمر الزهور من الجنسين، وهم محملون بأواني وذاهبون أو عائدون من رحلة جلب المياه المحفوفة بمخاطر جسام، من مساجد قريبة إلى بيوتهم أو من براميل يضعها فاعلو خير ومنظمات إغاثية في الحارات، ضمن ما يعرف محليا ب»مياه السبيل». والمؤلم أن كثيرا من الأطفال سقطوا قتلى وجرحى وهم في طريقهم لجلب مياه الشرب والتنظيف. وبحسب التقرير الأخير لمنظمة الأممالمتحدة للطفولة (يونيسف ) الصادر قبل أيام، تحت عنون «أطفال على حافة الهاوية»، فإنها رصدت أكثر من 1560 حالة من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في اليمن، حيث قتل أكثر من تسعمائة طفل وأصيب أكثر من ألف وثلاثمائة آخرين خلال عام واحد فقط من الحرب. ويضيف التقرير بأنه قد قتل أو أصيب في المعدل ستة أطفال يومياً خلال العام الماضي. وتعد هذه الأرقام المفجعة أعلى بحوالي سبعة أضعاف مقارنةً مع الحالات التي وثقت خلال عام 2014، أخذا بالاعتبار تعرض أكثر من 51 مدرسة للاعتداء في العام الماضي. فقد قتل بعض الأطفال داخل مدارسهم أو في الطريق من وإلى المدرسة. وتقول يونيسف إن هذه الأرقام هي غيض من فيض فقط، إذ إنها لا تشمل سوى الحالات التي استطاعت المنظمة أن تتحقق منها. وبعيداً عن الأثر المباشر للنزاع، تفيد تقديرات يونيسف بأن قرابة 10 آلاف طفل دون سن الخامسة لقوا حتفهم العام الماضي، بسبب إصابتهم بأمراض كان يمكن الوقاية منها. هذا بالإضافة إلى ما يقرب من 40 ألف طفل يموتون سنويا في اليمن قبل بلوغهم سن الخامسة. ومع تصاعد الحرب، تفاقمت ظاهرة تجنيد واستخدام الأطفال في القتال، حيث يتخذ الأطفال أدوارا أساسية في القتال مثل حراسة نقاط التفتيش وحمل السلاح. وأشار التقرير إلى أن يونيسف تحققت من أكثر من 800 حالة تجنيد لأطفال خلال عام واحد. ويضيف التقرير بأن أطراف النزاع تقوم بتجنيد أطفال لا تتجاوز أعمارهم 10 سنوات ليشاركوا في القتال. وناشدت يونيسف جميع أطراف النزاع بوضع حد للقتال في اليمن والتوصل إلى تسوية سياسية، تنقذ أطفال اليمن. متطلبات إعادة الإعمار ولأن أزمة اليمن مركبة، فإن أي جهد لإعادة الإعمار متى وضعت الحرب أوزارها سوف يكون بدوره معقدا. ويقتضي بدايةً العمل على معالجة آثار الحرب، من خلال ترميم الخلل الكبير في الكيان الاقتصادي والشرخ العميق الذي مزق النسيج الاجتماعي والقبَلي. أما على قائمة الخدمات المستعجلة فتبرز أولوية توفير الماء والطاقة للسكان، قبل وضع أي خطط تروم رفع مخلفات الحرب وإعادة الإعمار. ويقدر خبراء أن عملية بناء الاقتصاد اليمني على أسس متينة تتطلب البدء بإصلاح البُنى التحتية المدمرة بشكل شبه كامل، حيث ستتجاوز كلفة هذه المرحلة التي قد تستغرق سنوات مبلغ 200 مليار دولار. وهذه الكلفة الباهظة تفوق بكثير مقدرات اليمن، الذي تصنفه التقارير الدولية ضمن أكثر بلدان العالم فقرا. ولذلك يحتاج البلد المنكوب إلى مشروع إعمار شبيه بمشروع «مارشال» الاقتصادي، الذي أعاد بناء أوربا بعد الحرب العالمية الثانية. وللتذكير، فإن تقديرات تقرير تقييم الاحتياجات الذي تم إعداده بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، كانت حددت حاجيات اليمن قبل عشر سنوات في أكثر من 48 مليار دولار، من أجل تحقيق الحد الأدنى من التنمية البشرية. ومنذ ذلك الحين تراجع أداء الاقتصاد اليمني كثيرا، بالأساس بسبب تراجع أسعار النفط وتزايد عدد السكان. ثم انضافت الحرب منذ عام إلى مصائب البلد. وتعول حكومة اليمن الشرعية الموالية للتحالف، على دعم سخي من دول الخليج، من أجل تمويل بناء ما هدمته الحرب، إضافة إلى استيعاب تلك الدول للعمال اليمنيين، بما يخفف من مشكلتي الفقر والبطالة ويوفر لليمن موارد مالية في المستقبل. وبرأي خبراء، فإن فرصة النهوض بعد الحرب تمر بالضرورة عبر انضمام اليمن إلى نادي أثرياء الخليج، ممثلا في مجلس التعاون الخليجي. والمعروف في هذا الصدد أن اليمن سبق له أن تقدم منذ عقود بطلب الانضمام إلى المجلس، باعتباره بلدا خليجيا. لكن بعض الأطراف الخليجية ظلت تعارض بقوة انضمامه. وعلى ما يبدو فإن الموقف الخليجي آخذ في التململ ضمن تداعيات الحرب الحالية. فالأخبار الرائجة منذ أسابيع قليلة، تشير إلى ومضات تفاؤل حذر في شأن وعود خليجية مفترضة بإعادة النظر في الموقف الخليجي من انضمام اليمن إلى المجلس. وضمن هذا المسعى، كان الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي صرح أوائل مارس الأخير، بأنه ناقش مسألة انضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي مع الملك السعودي سلمان، وأن الأخير وافق على انضمام اليمن في المستقبل، لكن بشرط عدم وجود الحوثيين والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. وهو شرط مستحيل التحقق بالطبع. ومنذ أيام قلائل، كشف صلاح باتيس العضو في رئاسة الهيئة الوطنية للرقابة على مخرجات الحوار الوطني في اليمن، بأن دول الخليج تعمل حاليا على بلورة استراتيجية تهم ضم اليمن في مجلس التعاون الخليجي. وأوضح باتيس بأن عملية الضم سوف تسبقها ثلاث خطوات عملية، يتم الترتيب لها حاليا. وتتضمن أولا، معاملة المغتربين اليمنيين المقيمين بصفة قانونية ببلدان الخليج، كمواطنين خليجيين. وثانيا، دمج وحدات الجيش الوطني اليمني في درع الجزيرة، بحيث يكون اليمن مستقبلا مقرا دائما للدرع. وثالثا، دمج الوزارات السيادية للحكومة الشرعية اليمنية في المجلس الوزاري الخليجي. فسحة أمل.. وضمن آخر وأهم مستجدات الحرب اليمنية، ما صرح به ولي العهد السعودي ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان يوم الأحد الماضي (3 أبريل)، من أن ثمة تطوراً مهماً من شأنه إنهاء الحرب قريبا. وكشف المتحدث لوسيلة إعلام أمريكية وللمرة الأولى، عن وجود وفد من جماعة «أنصار الله» (الحوثيين) في الرياض، من أجل إجراء حوار مع الحكومة اليمنية الشرعية والجانب السعودي. وأضاف الأمير محمد بن سلمان في حوار لقناة «بلومبرغ» الإخبارية، بأن «هناك تقدماً ملموساً في المفاوضات اليمنية، ونملك اتصالاً جيداً مع الحوثيين، وهناك وفد منهم في الرياض حالياً». لكنه لوح بالتهديد في حال فشل الحوار، قائلا: «نحن ندفع باتجاه استغلال هذه الفرصة على الأرض، وإذا انتكست الأوضاع [بين طرفي النزاع في اليمن] فنحن جاهزون للتدخل». وتعتبر هذه المرة الأولى التي يعترف فيها مسؤول سعودي سامي بإجراء مفاوضات مع الحوثيين. ويأتي هذا المستجد البالغ الأهمية في وقت تكثف الأممالمتحدة من جهود وساطتها لإنهاء النزاع. فقد أكد مبعوث الأممالمتحدة إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد قبل أيام، نبأ إرسال خبراء أمميين إلى كل من الرياضوصنعاءوالكويت، تمهيدا لاستئناف المفاوضات اليمنية. وينتظر أن تنطلق هذه الأخيرة في 18 من شهر أبريل الجاري، بهدف التوصل إلى اتفاق شامل ينهي الحرب، ويسمح باستئناف حوار سياسي شامل وفقا لقرار مجلس الأمن 2216. وكان المبعوث الأممي أعلن في 23 مارس الماضي، بأن أطراف الصراع اليمني، وافقت على وقف الأعمال العدائية في البلاد، ابتداءً من منتصف ليلة 10 من شهر أبريل الجاري، تمهيدا لبدء جولة مفاوضات مباشرة بين الأطراف في 18 من الشهر ذاته في الكويت. ويرى مراقبون بأن التزام أطراف النزاع اليمني ببعض الخطوات المشجعة، من قبيل الإفراج المتبادل عن الأسرى أخيرا بين كل من السعودية وجماعة الحوثي، والتهدئة على الحدود بين البلدين، تعتبر مؤشرات إيجابية على إمكانية استئناف المفاوضات قريبا برعاية أممية. وبحسب المبعوث الأممي إلى اليمن، فإن المفاوضات المرتقبة سوف تركز على خمس نقاط أساسية، هي: الانسحاب، وتسليم السلاح، والترتيبات الأمنية، وإيجاد حل سياسي، وإنشاء لجنة لإطلاق سراح السجناء والأسرى. هكذا، وبالنظر إلى التحركات والمستجدات الأخيرة، يبدو شهر أبريل الجاري شهر الأمل الذي يعلق عليه اليمنيون انتظاراتهم الكثيرة. فهل تفعلها أطراف النزاع الدامي وتوقع أخيرا على «سلام الشجعان»، كما أسماه الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح؟ وحدها الأيام والأسابيع القادمة كفيلة بالرد اليقين.. العطش يتهدد اليمن بسبب أزمة مياه مزمنة تصنف اليمن ضمن البلدان الأكثر فقراً في العالم من حيث حصة الفرد من المياه. فمعدل حصة المواطن اليمني تقدر سنوياً ب120 متراً مكعباً فقط، مقارنة ب125 مترا مكعّبا في دول إفريقيا والشرق الأوسط، و7500 متر مكعب كمعدل بالنسبة إلى باقي دول العالم. ويتمثل السبب في ذلك، في أنه قد تم استهلاك جميع الموارد الباطنية المتوفرة تقريبا، حتى صار حفر الآبار يمتد إلى مسافات عميقة، للوصول إلى المخزون المائي الجيوراسي غير المتجدد.وهو مورد يعد كافيا على الأمد المتوسط فقط. وتتفاوت وفرة المياه للسكان من منطقة إلى أخرى، حيث تعاني المناطق الداخلية من شح المياه أكثر من المدن الساحلية. وعلى العموم، تفيد تقارير المنظمات غير الحكومية بأنه وبسبب نضوب موارد الماء، صارت المنافسة كبيرة على هذه المادة الحيوية بين المدن والبوادي اليمنية. وهكذا، وفي وقت تنضب موارد المياه الجوفية أسرع من المتوقع بسبب التحولات المناخية، لم يكن المستهلكون في العاصمة صنعاء يتوصلون (حتى قبل الحرب) بالمياه من شبكة الأنابيب المحلية إلا مرة واحدة كل أسبوعين. ففي حوض صنعاء مثلا، يجري حاليا استغلال أحد موارد المياه الجوفية العميقة للغاية. ويتطلب ذلك حفر آبار يصل عمقها إلى قرابة كيلومتر واحد، بحيث تكلف الطاقة اللازمة لضخ المياه ميزانية كبيرة. ويعتقد الخبراء بأن موارد هذا الحوض كافية لتلبية الطلب المحلي على المياه لفترة لن تتجاوز 15 سنة على الأكثر. أما مع الحرب، فقد تفاقم مشكل عدم توفر المياه للسكان، بعدما توقفت مؤسسة المياه الحكومية عن ضخ المياه إلى المنازل منذ بداية الحرب. فصار تبعا لذلك جزءا من المشهد اليمني، منظر الناس وهم يقفون في طوابير طويلة أمام مسجد أو صهريج ماء متنقل على شاحنة، في انتظار دورهم من أجل تعبئة عبوات بلاستيكية بالماء، وقد علا البؤس محياهم. ولا تقتصر معاناة سكان العاصمة اليمنية على شح المياه، بل إن مئات الآلاف منهم – سيما الأطفال دون الخامسة – يشربون مياهاً ملوثة تهدد الصحة العامة. وكانت نتائج فحوص أجريت على عينات سحبت من عشر منشئات من بين 180 منشأة لتوزيع المياه لفائدة قرابة ثلاثة ملايين نسمة من سكان صنعاء، كشفت عن وجود تلوث جرثومي في 80% من العينات المفحوصة. كما أثبتت الفحوص – التي أجريت في المركز الوطني اليمني لمختبرات الصحة العامة- وجود تلوث بالغائط البشري في 60% من عينات المياه المُنتجة في المنشئات المذكورة. والنموذج الآخر على اشتداد وطأة العطش على اليمنيين تمثله مدينة تعز الكبيرة، التي لم تكن تزود بالمياه قبل الحرب سوى مرة واحدة كل 40 يوما. وطبعا فاقمت المواجهات المسلحة في المدينة من أزمة المياه المزمنة، حيث تفيد تقارير هيئات الإغاثة الإنسانية بتعز، بأن نسبة انعدام خدمتي الكهرباء والمياه قد بلغت 100 % في المدينة، بحيث أصبح 1.6 مليون نسمة في حاجة عاجلة إلى الإغاثة بمياه الشرب. وفي ظل استفحال العطش، تضاعفت أسعار بيع المياه التي تحضرها الشاحنات الصهريجية ثلاث مرات أسبوعيا، بسبب حاجة الشاحنات إلى عدة أيام من أجل توصيل حمولتها من المياه إلى داخل مدينة تعز. وفي ظل هذه الظروف، أصبح سكان المدينة يعتمدون في مياه الشرب على المساعدات الإغاثية التي تقدمها لهم منظمات محلية ودولية تقوم بتوزيع المياه بالمجان في الأحياء.