هذه الأيام أصبح من بين اللوازم المدرسية، التي يجب على التلاميذ إحضارها معهم إلى القسم، ثوب بلاستيكي لكل تلميذ من أجل تفادي البرودة التي كانت مصحوبة بأمطار غزيرة ضربت بعض القرى التابعة لكل من آسفيومراكش وشيشاوة. ليس هذا فقط، بل من المفروض على الأستاذ إحضار دلو كبير من أجل وضعه في المكان الذي تتسرب منه الأمطار التي تغرق الفصل الدراسي في فصل الشتاء. و أصبح على بعض التلاميذ التابعين لإحدى القرى التابعة لجهة مراكش تانسيفت الحوز، وجهة دكالة عبدة، أن يتعودوا على الدراسة وتلقي العلم فوق مجار صغيرة للمياه، بسبب وجود شقوق في الجدران وكسور في زجاج النوافذ، وأحيانا باب مكسور يفسح المجال لدخول أكبر كمية من الرياح القارسة التي ترسلها ثلوج جبال أوكايمدن. سقوف آيلة للسقوط ياسين السفياني، معلم بنواحي إقليم شيشاوة، و واحد من المعلمين الذين ذاقوا مرارة غياب بنية تحتية داخل المؤسسة التعليمية التي يُدرس بها. منذ ما يزيد عن خمس سنوات لم يكن ياسين، البالغ من العمر 28 سنة، يعلم أنه بتخرجه من مدرسة تكوين المعلمين سيعيش عيشة المغترب في بلده. يقول ياسين في حديث مع «المساء»: «لم أكن أتوقع أن أدرس في مثل هذه الظروف التي أحس فيها بالاغتراب والغبن». ويصف المعلم ياسين الأجواء التي يدرس فيها التلاميذ خلال فترة فصل الشتاء بالقاسية، فبعضهم يفترش أغلفة بلاستيكية ويلتحفون سقوفاً آيلة للسقوط. كما أن بعض الأقسام الدراسية منهارة جزئيا، في الوقت الذي يتكدس داخلها حوالي 50 تلميذا. فأغلب الفصول، التي تحتوي عليها المدرسة التي يُدرس فيها المعلم القادم من مدينة تاونات، والتي رفض الكشف عن اسمها، تُهدد حياة التلاميذ التي يدرسون بها. فهطول الأمطار يُسبب القلق لدى الجميع، معلمين وتلاميذ، إضافة إلى قلق بعض الآباء الذين أصبحوا مخيرين بين القبول بالأمية والجهل أوالمخاطرة بحياة فلذات أكبادهم من أجل تحصيل نور العلم مقابل ظلام الجهل. وفي هذا الصدد، يوضح أحمد الغنبوري، والد التلميذ المحجوب الغنبوري الذي يدرس بالسنة الثانية ابتدائي، أن العديد من الآباء الذين يلتقي بهم في السوق الأسبوعي يعبرون له عن قلقهم من الأوضاع التي يدرس فيها التلاميذ الصغار. يقول والد الطفل المحجوب: «أعرف آباء منعوا أبناءهم من الدراسة في فصل الشتاء أو أثناء فترة هطول الأمطار، بل هناك من منعوا أبناءهم بصفة نهائية». الوسادات بدل الطاولات في إحدى القرى المدرسية بمدينة اليوسفية التابعة لإقليمآسفي، يجلس أطفال صغار في مقتبل العمر على وسائد صغيرة لا يتجاوز سمكها 10 سنتيمترات، موضوعة على الأرض الباردة. سبعة تلاميذ صغار يتربعون على الأرض ويحملون لوحة صغيرة كتبت عليها الحروف الأبجدية، في حين يجلس البعض الآخر على طاولات مهترئة تكاد تهوي بهم على أرض تلسع من شدة البرد القارس الذي يضرب المدينة الفوسفاطية هذه الأيام. يبتسم عمر اجطير، الذي يدرس بالمستوى الأول ابتدائي مع زملائه، في الوقت الذي ينحني على لوحته يكتب فيها. وبالرغم من الألم الذي تنشره البرودة في الجسم النحيف لعمر (6 سنوات) فإنه لا يأبه بذلك. المعلم «رشيد.ق» لا يطيق الظروف التي يعمل فيها ويلقن فيها التلاميذ العلم، فأول ما يثير استياء المعلم رشيد هو الظروف التي يدرس فيها أطفال صغار قدموا من مناطق بعيدة، من أجل أن يحصلوا العلم والمعرفة، لكن «يا حسرة على ما قدموا لطفولة بريئة عمدت إلى طبع صفحاتها البيضاء بالعلم والنور»، يعلق رشيد بحسرة شديدة. منذ أن التحق رشيد بالمنطقة القروية، التي تبعد عن وسط المدينة بأزيد من 40 كيلومترا، وهو يشاهد معاناة التلاميذ الصغار مع الأمطار التي تتهاطل على المدينة في فصل الشتاء، و مع أقسام تكاد تهوي على رؤوسهم، ونوافذ بدون زجاج، وباب مكسور تدخل منه الرياح، «لم أعد أفكر في معاناتي بالمنطقة النائية، بل أصبحت أفكر في طريقة لحماية الأطفال الصغار من لسعات البرد القارس»، يقول رشيد في حديث مع «المساء». ويحمّل المعلم رشيد الأكاديمية ونيابة التعليم مسؤولية الوضع المتردي الذي يعيش فيه التلاميذ الصغار، فمند بداية الموسم الدراسي لم يلتق رشيد بأي مسؤول يمكن أن يطرح له هذا المشكل، وإن كان المعلم لا يعول كثيرا على هذه المؤسسات «التي لا يهمها الظروف التي يتلقى فيها التلاميذ دروسهم التعليمية، ولا المشاكل التي يتخبط فيها المعلم داخل مدرسته»، يوضح رشيد. الربو في مدينة الفوسفاط قضى المعلم حفيظ السريفي ما يزيد عن 22 سنة بسلك التعليم. جزء كبير من هذه المدة قضاه رفقة زوجته بالمناطق القروية، فمن قرى دكالة إلى قرى شيشاوة، مرورا بقرى الحوز، يتذكر المعلم حفيظ السريفي، الذي يعاني من داء الربو، كيف عاش لحظات عصيبة في فصل الشتاء، خصوصا عندما كان يتوجه صوب الفصل الدراسي. في الصباح الباكر في فصل الشتاء كان هذا المعلم يعيش لحظات تعذيب، وبالضبط عندما تكون الأمطار تتهاطل على القرية، فبمجرد خروجه من مزله رفقة زوجته متجها صوب قسمه، يحس بصعوبة في التنفس، لكن هذه الحالة تشتد عندما يبدأ في التحرك داخل الفصل الذي يفتقر إلى أحد الجدران الأربعة، التي تحمي أفراد القسم من البرد والأمطار. «عندما كنت أخرج من منزلي الدافئ صوب القسم البارد أعرف أنني سأعيش أحد فصول عذاب الحياة»، لكن زوجته كانت تعينه على تجاوز هذه اللحظات العصيبة التي يدخل فيها المعلم في مدينة ملوثة بحكم قربها من المكتب الشريف للفوسفاط. ورغم عشرات الرسائل المكتوبة التي أرسلها المعلم إلى نائب وزارة التربية الوطنية ومدير الفرعية التي ينتمي إليها لم يتلق حفيظ السريفي أي جواب إلى حدود اليوم، ولم يعد له سوى الاحتساب والصبر إلى أن يأتي الفرج الذي يضع حدا لمعاناة التلاميذ الصغار قبل تقديم يد المساعدة له ولزوجته في مدينة يموتون فيها يوما بعد يوم جراء إصابته بداء الربو.