خرج التنسيق بين المركزيات الأربع بقرار تنفيذ إضراب عام وطني في القطاع العام والخاص بعد مخاض عسير وعملية قيصرية لازالت أعراضها الجانبية تتفاعل بسبب التردد، والخلاف، والاتهامات الصريحة التي رافقت تفعيل الإضراب وتحديد موعده، لتلعب بذلك النقابات آخر ورقة لها في مواجهة حكومة شرعت في العد التنازلي لولايتها. وبغض النظر عن موضوعية الأسباب التي بسطتها النقابات للدعوة إلى التصعيد، فإن الأكيد أن حالة الملل والإحباط التي أصابت عموم المغاربة من السياسة والسياسيين، ستصب حتما في جانب الحكومة، ما يهدد بحرق الورقة الأخيرة للنقابات، علما أن الموعد الذي ورطت فيه النقابات نفسها، سيجعلها غير قادرة على خلق تعبئة حقيقية تعبد الطريق لإنجاح الإضراب، بشكل يبعث رسائل حقيقية للحكومة وللدولة بأن صوت النقابات لازال مسموعا، وأن نزع فتيل الاحتقان الاجتماعي أصبح مستعجلا، عوض الهرولة بشكل غير مدروس نحو تطبيق تعليمات المؤسسات المالية الدولية، وتغليب كفة التوازنات المالية على كفة السلم الاجتماعي. في الماضي، كان قرار الإضراب العام يربك الدولة التي تستنفر أجهزتها وتستعد للأسوأ، مستحضرة ذكريات لإضرابات عامة كانت برائحة الدم والرصاص، ولازالت تفاصيلها المؤلمة عالقة بذاكرة المغاربة، لكن الوضع تغير اليوم. حينها كان لبعض الأحزاب وزن، ولبعض النقابات التي تدور في فلكها نفس الوزن في الشارع، كما كان خطابها قريبا من لغة وفهم ملايين المغاربة من العمال والطلبة والمسحوقين اجتماعيا، ممن كانوا يضربون عن عمد واقتناع، لينضافوا إلى نسبة مهمة كانت تشارك عن غير قصد، مخافة أن يتحول الإضراب إلى انتفاضة وأعمال عنف تسيل فيها الدماء، وتزهق فيها الأرواح، كما حدث في سنة 1981 مع من وصفهم إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، دون حرج ب»شهداء الكوميرا»، إلى جانب ضحايا الإضراب العام لسنة 1990. آما الآن ورغم أن بعض الرموز النقابية التي صنعت هذه الأحداث لازالت تمسك بدفة القيادة، فإن مياها كثيرة جرت فوق الجسر وتحته، بعد أن وهنت الأحزاب، والتحقت بها النقابات التي بهت تأثيرها على المغاربة، وفقدت قدرتها على التعبئة، كما أصبح وضعها لا يختلف كثيرا عن وضع زعمائها الصحي، الأمر الذي جعل الحكومة المستقوية بالاقتطاع من أجور المضربين لا تحفل بتهديداتها، بل وتعتبر أن قرارات الإضراب التي تدعو إليها النقابات هي مجرد هدية مجانية لقياس مدى شعبية الحكومة في الشارع، من خلال قلب نسب المشاركة الضعيفة في معارك النقابات إلى معدل تأييد واسع لها ولقراراتها. قيادي نقابي، لم يخف أن الدعوة إلى قرار الإضراب العام الوطني كانت ضرورية من أجل إنقاذ ماء وجه النقابات التي خانتها سرعتها، لتجد نفسها عاجزة عن مواكبة سلسلة من القرارات اللاشعبية التي فعلتها الحكومة، مستفيدة من اختلال ميزان القوى مع أحزاب المعارضة، ومن حالة التشرذم النقابي، وضعف التجاوب والتعبئة وحالة الصمت الشعبي. ذات القيادي لم يتردد أيضا في التأكيد على أن الهدف الأقصى المرجو من قرار الإضراب الآن هو إجبار الحكومة على استقبال النقابات وإجراء الحوار بغض النظر عن نتائجه، وهو كلام يحمل نسبة كبيرة من الصدق والواقعية، أخذا بعين الاعتبار العمر المتبقي للحكومة، وارتفاع سقف التهم والمطالب التي أشهرتها النقابات بعد إعلانها خوض إضراب عام. هذا الحديث يكشف، أيضا، أن النقابات أصبحت مغلوبة على أمرها، بل وتلقت صفعة قوية في صمت مطبق وهي تنظر كيف بادرت الباطرونا لطرز ملامح مشروع قانون إضراب على مقاسها، قبل أن يحين الدور على تأسيس تنسيقيات مستقلة، أصبحت تمثل تهديدا وجوديا للنقابات الغارقة في المؤامرات الداخلية وتصفية الحسابات وحروب «المماليك» حول الزعامة.ورغم أن النقابات أعلنتها معركة وجود، ورفعت شعار «إما نكون أو لا نكون»، بعد إعلانها عن قرار الإضراب العام، إلا أن الحكومة لم تتأخر في الرد، وبطريقة لا تخلو من استخفاف بهذه الخطوة، بعد أن أكدت من خلال مصطفى الخلفي، وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، أنه لا تراجع عن مشاريع القوانين المتعلقة بالتقاعد، وأنها لا يمكن أن تراجع مشاريع القوانين التي تهم التقاعد بعدما وضعتها على أنظار المؤسسة البرلمانية، وقال إن «ما طرح هو إعادة المشاريع للمجلس الحكومي، وهذا أمر غير ممكن لأن المشروع أحيل على البرلمان». الخلفي ذهب أبعد من ذلك، وقال إن النقابات تتحمل أيضا المسؤولية في التشنج الحاصل قبل أن يغلق صفحة الخلاف والصراع حول خطة الحكومة لإصلاح أنظمة التقاعد بالتأكيد أن الحكومة ستتحمل المسؤولية في إنجاز مشروع وطني لإصلاح أنظمة التقاعد. هذا الخطاب الذي حمله كلام الخلفي يسقط عن النقابات أهم نقطة كانت تعول عليها لخلق التعبئة وإنجاح إضرابها العام، علما أن باقي المطالب التي بسطتها ومنها «الزيادة العامة في الأجور، وتطبيق السلم المتحرك، والزيادة في معاشات المتقاعدين،و تخفيض الضغط الضريبي عن الأجور، وتعميم الحماية الاجتماعية، والسهر على إجبارية التصريح بالأجراء لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي»، تبقى مجرد مطالب مجترة، ومجرد حشو نضالي، باعتبارها تنطوي على التزامات وتحملات مالية سيستحيل تفعيلها بالنظر إلى المدة المتبقية من ولاية الحكومة، التي لن تورط نفسها في اتفاق قد تكون مجبرة على تطبيقه في حال تجديد الثقة فيها من خلال صناديق الاقتراع، وبالتالي فإن هامش التحرك والمناورة ضاق على النقابات التي جربت، حسب ما أعلن عنه كافي الشراط، المنسق العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، في وقت سابق، جميع الوسائل من أجل إجبار الحكومة على الحوار، ومنها المذكرات والوقفات، ومقاطعة احتفالات فاتح ماي وخوض إضرابات قطاعية، وإضراب عام، دون أن تبدي الحكومة أي مشاعر اجتماعية، قبل أن يحين الدور على قرار إضراب عام جديد قد ترتد نتائجه على النقابات التي أصبحت مهددة بفقدان ما تبقى لها من رصيد في مهام الوساطة في حال فشله بشكل كبير. هذا المعطى سيفتح، أيضا، في حال حدوثه، المجال مشرعا لاحتجاجات غير مؤطرة أو من خلال تنسيقيات تحركها الانفعالات وردود الفعل ولا تتقن الفعل التفاوضي، وهو الخطر الذي لن ينحصر ضرره في النقابات، بل سيمتد إلى الحكومة التي ستجد نفسها في مواجهة احتجاجات خارجة عن السيطرة ومنفلتة من لعبة الربح والخسارة. هل يؤدي فشل الإضراب الوطني إلى الإجهاز على ما تبقى من رصيد النقابات؟ بعد إعلان المركزيات النقابية الأربع (الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والفيدرالية الديمقراطية للشغل) عن إضرابها الوطني لمدة 24 ساعة يوم الأربعاء 24 فبراير، بسبب «انفراد الحكومة باتخاذ القرارات في عدد من الملفات، أبرزها إصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد»، وفق ما أعلنته المركزيات المذكورة، تجدد الحديث عن مصير العمل النقابي في حال إذا ما فشل الإضراب الوطني المعلن عنه؟ وهل سيتم الإجهاز على ما تبقى من رصيد النقابات، خاصة مع فشل الحركات الاحتجاجية السابقة؟. ومعلوم أن العمل النقابي بالمغرب قد عرف تراجعا منذ حوالي 15 سنة بفعل العولمة والفكر المقاولاتي والأزمة الاقتصادية، مما أدى إلى تقلص العمل النقابي بشكل كبير في المغرب، ووقع هذا أيضا في الدول الأكثر ديمقراطية، يقول عبد المالك أحزرير، أستاذ العلوم السياسية بجامعة المولى إسماعيل بمكناس، الذي أشار إلى أنه لسوء حظ حكومة عبد الإله بنكيران، أن النقابات القوية تنتمي إلى أحزاب المعارضة، وأن تحركاتها تأتي من أجل رد الاعتبار للعمل النقابي الذي عرف نزيفا منذ أكثر من 15 سنة، حيث كان «الصمت هو القاعدة والتحرك هو الاستثناء منذ عهد حكومة التناوب، حتى أصبح للرأي العام تمثلات تتجلى في أن العمل النقابي انتهى بعد حكومة عبد الرحمان اليوسفي. ويرى المحلل السياسي، في تصريح ل»المساء»، أن النقابات تحاول من خلال إعلان الإضراب العام رد الاعتبار للعمل النقابي لإنقاذ ما تبقى من رصيدها النضالي الذي أضاعته منذ سنين خلت، رغم أن لها مبرراتها في هذا الإضراب نتيجة النظرة الأحادية للحكومة في إصلاح صندوق المقاصة والتقاعد، إذ لم تستشر النقابات في ملفات لها علاقة بملفات اجتماعية حساسة، إذ أن لصندوق المقاصة دورا في التماسك الاجتماعي، ويقتضي عدم المس بالدور الذي أنشئ لأجله، إضافة إلى صناديق التقاعد التي يدخل تدبيرها ضمن اختصاصات الحكومة وليس الموظفين، وإصلاحه يتطلب العديد من المشاورات والتوافقات والحوار المتواصل، وفق رأي أستاذ العلوم السياسية. ومن جهته يرى محمد دعيدعة، عضو فريق العمل الديمقراطي بمجلس المستشارين أن هناك اختلافا حول مفهوم هذا الحوار الذي يتطلب الوصول إلى حلول واتفاق في عدد من الملفات، والتي قد لا ترضي الطرفين ولكن تفتح الآمال بأن هناك نتائج ملموسة، لا أن يكون الحوار عبارة عن لقاء وشرب للشاي، وذلك في رده على تصريحات الحكومة القائلة بأن باب الحوار دائما مفتوح. عضو فريق العمل الديمقراطي بمجلس المستشارين اعتبر، في تصريح ل»المساء»، أن النقابات لجأت إلى خطوة الإضراب الذي ليس بالأمر السهل على اعتبار أن «آخر الدواء هو الكي»، لوجود مبررات أبرزها فرض الحكومة الأمر الواقع، لا سيما بعد إيقافها للحوار رغم أن اللقاء الأخير، الذي عقده رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، أشار فيه إلى أن هناك لقاء آخر مرتقبا. ويرى متتبعون أن الإضراب المقبل سيكون مثل الأشكال الاحتجاجية السابقة التي خاضتها النقابات والتي لم تكن في المستوى المطلوب، وهو الرأي الذي ذهب إليه دعيدعة عبر قوله «إذا فشل الإضراب ستكون هناك كارثة بكل المقاييس، لأن كل المعارك السابقة لم تكن في مستوى الانتظارات، وعلى المأجورين ومن يهمهم الأمر أن يتحملوا مسؤوليتهم ويساهموا في إنجاح هذه المعركة، لأنها معركة وجود وأن كل فشل سيؤدي إلى تقوية الطرف الآخر». المستشار البرلماني يأمل أيضا أن يتم التوافق حول مشاريع القوانين المرتبطة بإصلاح أنظمة التقاعد، التي من المقرر مناقشتها داخل لجنة المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية بمجلس المستشارين، على اعتبار أن التوافق مهم وأساسي من أجل تجنيب البلاد الكثير من المشاكل هي في غنى عنها. معركة كسر العظام بين الحكومة والنقابات تهدد السلم الاجتماعي تصلب مواقف الطرفين ينذر بانهيار مؤسسة الوساطة بين الدولة والمجتمع يبدو صراع الحكومة والنقابات حول ملف التقاعد، الذي يبقى أحد أبرز نقاط الخلاف بين الطرفين مرشحا لمزيد من التوتر والتصعيد، في ظل تشبث كل واحد منهما بمقترحاته، وسط غياب آي آلية تفاوضية بإمكانها أن تقود نحو حل وسط يأخذ بعين الاعتبار التوازنات المالية للبلاد، وأيضا حقوق الأجراء المعنيين بهذا الإصلاح. وفي ظل استمرار شد الحبل بين الطرفين، يظل تبادل الاتهامات سيد الموقف بينما يستعد البرلمان لتدارس مشاريع القوانين التي ينتظر أن تدخل حيز التنفيذ بداية سنة 2017. فالحكومة ترمي باللائمة على النقابات، لكونها تتشبث بمطالب غير قابلة للتنفيذ في المرحلة الحالية، بالنظر إلى الإكراهات المالية التي تواجه البلد. وفي المقابل يتهم الفرقاء الاجتماعيون الحكومة بالسعي لتحميل الأجير المغربي وزر إصلاح الصندوق، رغم أنه غير معني بالاختلالات التي شابته، خاصة من حيث التدبير المالي. في هذا الخضم خرج رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، للرد على المركزيات النقابية التي دعت إلى إضراب وطني. فبنكيران، الذي يؤكد دائما أن علاقته بالنقابات جيدة، سجل خلال افتتاحه لأشغال المنتدى الرابع للتقاعد يوم الجمعة الماضي في الرباط، أن علاقته بالنقابات ليست هي نفسها التي تربطه بالأحزاب المنافسة له، غير أن الرجل اعتبر أنه لو كان الإضراب يحل المشاكل، لأضرب هو نفسه. صلب الخلاف بين الطرفين يتمحور إذن حول مضمون إصلاح صناديق التقاعد، وليس حول الإصلاح في حد ذاته. فبنكيران يؤكد أن حكومته حاولت قدر الإمكان أن تحسن من المشاريع المقترحة لجعلها أقل ألما على الطبقة الشغيلة، ودعا النقابات إلى تقديم بدائل أخرى إن هي كانت قادرة على الوصول لنفس الهدف.. إنقاذ الصندوق المغربي للتقاعد من أزمته المالية. لكن الحكومة كمؤسسة تتحمل من جانبها قدرا كبيرا من المسؤولية في الوضعية التي آل إليها الصندوق. فالحكومات المتعاقبة حاولت إبعاد هذا الملف «الحارق» عنها، واكتفت بفتح مشاورات أخذت مدة طويلة منذ سنة 2004، في الوقت الذي كانت سفينة الصندوق المغربي تغرق، إلى أن وصلت اليوم إلى وضعية كارثية يفقد معها 6 ملايير سنتيم يوميا. هذا المعطى ينضاف إليه تأخر هذه الحكومة في معالجة هذا الملف. فإطلاق المشاورات حول إصلاح المعاشات المدنية لم يؤد إلى نتيجة، سواء من حيث إقناع النقابات بمضمون هذا الإصلاح أو من حيث إيجاد بدائل أخرى غير المقترحات التي تراكمت منذ سنوات، وفي النهاية فإن هذا الإصلاح لن ينطلق إلا في عهد الحكومة المقبلة، أي بداية سنة 2017. ومن جانبها تتحمل النقابات جزءا مهما من مسؤولية التصعيد وتوتير الأجواء مع الحكومة، فهذه المؤسسات التي تلعب دور الوساطة بين الأجراء والحكومة فشلت في طرح وإقناع الحكومة ببدائل حقيقية عن مشروع الإصلاح الذي تقترحه، وبأقل كلفة ممكنة عوض التشبث بمطالب تبدو في المرحلة الحالية صعبة المنال وعلى رأسها إقرار زيادة عامة في الأجور. هذا الوضع يضاف إليه فشل النقابات في إقناع قواعدها بضرورة التصعيد، خاصة بعدما أثبت سلاح الاقتطاع من الأجور نجاعته في وقف نزيف الإضرابات. وبدا واضحا، من خلال عدد من المسيرات وأيضا الإضرابات التي دعت إليها النقابات، أن الأخيرة أضحت شبه عاجزة عن مواجهة الحكومة بسلاح الشارع، وأن عليها البحث عن آليات أخرى لا تقل أهمية، ومنها مواجهة المشاريع الحكومية من داخل المؤسسة التشريعية. نحن اليوم أمام أزمة خطيرة تهدد السلم الاجتماعي، فتراجع القدرات التنظيمية للنقابات في التعبئة ومواجهة الحكومة عبر الشارع يطرح مشكلا حقيقيا يرتبط بالجهة التي ستلعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع، وهي المهمة التي ظلت النقابات تلعبها على مر التاريخ، من أجل الوصول إلى حلول وسطى تأخذ بعين الاعتبار مختلف المعطيات المالية والاجتماعية. اليوم تبدو الحكومة والفرقاء والاجتماعيون مدعوين، أكثر من أي وقت مضى، إلى ضرورة العودة إلى طاولة الحوار بغض النظر عن استجابة رئيس الحكومة لمطلب سحب المشاريع لإعادة التفاوض بشأنها، فالسعي إلى تحقيق بعض المكاسب والإجراءات الموازية لهذا الإصلاح من شأنه أن ينزع فتيل التوتر ويعيد المياه إلى مجاريها، عوض البقاء حبيسي مواقف متصلبة سواء لدى الطرف الحكومي، الذي يرى في مشاريعه «عين الحقيقة»، أو النقابات التي تعتبر الشارع الطريقة الأنجع لمواجهة مشاريع الإصلاح. ميلود بلقاضي: مغرب اليوم في حاجة إلى عقلاء داخل النقابات والحكومة قال إن زمن الانتقال الديمقراطي الهش عرى وفضح حقيقة النقابات والأحزاب – عدة تساؤلات تحيط بتوقيت الإضراب العام الذي يتزامن مع اقتراب نهاية ولاية الحكومة، ألا ترون أن ذلك سيحد من مفعوله أخذا بعين الاعتبار المطالب التي ترفعها النقابات؟ بداية، مرت ثمانية وأربعون سنة على تنصيص دستور المغرب لسنة 1962 على حق الإضراب مع إحالته على إخراج قانون تنظيمي ينظم كيفية ممارسته دون أن تتجرأ الحكومات المتعاقبة على إخراج هذا القانون إلى حيز الوجود، وجاء الدستور الجديد لسنة 2011 لينص في الفصل 29 على أن حق الإضراب مضمون، على أن يحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته والأكيد أن عدم إخراج هذا القانون للوجود يجعل من الإضراب كحق دستوري مجالا خاضعا لرغبات وأجندات الحكومات والنقابات ولحساباتها السياسوية الضيقة، وهو ما ينطبق على عدد من الإضرابات التي يعرفها المغرب، إذ أن اختيار زمان ومكان الإضراب لا يكون اعتباطيا بل خاضعا لأجندة معينة تصفى فيها الحسابات السياسوية. وعليه، فتحديد النقابات لتوقيت الإضراب ليس بالبريء وكيفية تعامل الحكومة معه ليست بالبريئة أيضا لأن القاعدة العامة التي تتحكم في الإضراب العام بالمغرب تكون على شكل شد الحبل بين الحكومات والنقابات. وإعلان النقابات عن تاريخ الإضراب الوطني العام، الذي هو الثالث من نوعه في عهد حكومة بنكيران، رقم قياسي لم يسبق للنقابات أن خاضته ضد أي رئيس أو وزير أو أي حكومة، هو بمثابة إخراج النقابات آخر آليات المواجهة مع حكومة بنكيران شهورا على نهاية ولايتها، لتكون بذلك من بين آخر الجولات ضد الحكومة. ويبدو أن شد الحبل بين الطرفين سيستمر في ظل اتهامات متبادلة بين الطرفين، فالنقابات تصف مواقف الحكومة بالتعنت، والحكومة تتهم النقابات بعرقلة الإصلاحات. والأكيد أن استمرار المواجهة والتحدي بين الحكومة والنقابات يمكن أن يضع المغرب على أبواب أزمة اجتماعية في سياق اقتصادي وسياسي وطني دقيق، خصوصا بعد إخراج الحكومة مرسوم7 أكتوبر 2016 يحدد تاريخا لإجراء الانتخابات التشريعية. – قبل إعلان قرار الإضراب العام كان هناك خلاف واضح بين النقابات بخصوص هذا القرار وصل حد التهديد بالانسحاب من التنسيق، كيف تفسرون ذلك؟ عادي جدا أن تعرف النقابات خلافات حادة فيما بينها على مستوى المكان والتوقيت والكيفيات والأهداف قبل الاتفاق بينها على تاريخ لإضراب عام لأن كل نقابة لها حسابات معينة من تنظيم هذا الإضراب، وأجندة الفاعل النقابي بالمغرب ليست مستقلة عن أجندة الفاعل السياسي، وعليه فالخلافات التي تحدث بين المركزيات النقابية زمن اتخاذ قرار الإضراب تذكرنا بالخلافات التي تحدث بين الأحزاب السياسية عندما تريد اتخاذ بعض المواقف الحاسمة. وبالتالي فإذا كانت للنقابات في الأنظمة الديمقراطية سلطات مواجهة للحكومات على مستوى الواجهات الاقتصادية والاجتماعية لكونها لا تهتم بمن يحكم بقدر اهتمامها بحماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشغيلة، فإن سلطات النقابات بالمغرب ما زالت تمارس سلطات المعارضة السياسية. ونشير إلى أن الخلافات النقابية حول قرار الإضراب لا تكون خلافات في المنهج أو المقاربة لخوض الإضراب، بقدر ما تكون استغلالا لظرف الإضراب لتصفية الحسابات الشخصية والحزبية في ما بينها أو ضد الحكومة. – الرد الحكومي جاء سريعا على التصعيد المعلن من قبل أربع مركزيات من خلال إشهار جملة «لا تراجع»، ما الذي يجعل الحكومة واثقة إلى هذا الحد؟ الأكيد أن رد الحكومة على قرار المركزيات النقابية الأربع جاء سريعا وواضحا وفيه عدة رسائل لمن يهمه الأمر، مفاده أنه لا تراجع عن الإصلاحات رغم كونها ملفات اجتماعية حارقة مثل إصلاح ملف التقاعد وصندوق المقاصة، وفي هذا تحد قوي ومباشر للنقابات، لكن الرد السريع والصارم للحكومة وتحديها للنقابات لا يمكن تفسيره إلا تفسيرا واحدا هو أن رئيس الحكومة أعطي له الضوء الأخضر من فوق وله الموافقة من جهات عليا ليقوم بهذه الإصلاحات الصعبة وهو على وشك انتهاء ولايته. من ثم فالعارف بسيكولوجية ونفسية رئيس الحكومة بنكيران يدرك أنه لن يتراجع عن تنزيل مشروع إصلاح أنظمة التقاعد "الذي أقر بأنه مؤلم لكنه ضرورة لإنقاذ الصندوق من الإفلاس الشامل، حسب تعبيره. – هل تتوقعون أن تتراجع النقابات عن قرار الإضراب في حال مبادرة الحكومة إلى فتح حوار؟ يصعب أن تتراجع النقابات عن قرار الإضراب ويصعب على الحكومة أن تفتح حوار حقيقيا وليس شكليا إذا لم تتدخل جهات معينة عليا بالبلاد لأن وجهات النظر بين الحكومة والنقابات متناقضة بشكل كبير، وكما ينص على ذلك علم التفاوض فإن أي تقارب بين الحكومة والنقابات لا يتم إلا بتوفر بعض الشروط الأساسية: أولها استرجاع الثقة النسبية بين النقابات ورئيس الحكومة، وتوفر إرادة التفاوض والرغبة في إيجاد حلول وسطى بين الطرفين، إضافة إلى تنازلات متبادلة من الطرفين، وضرورة توفر استقلالية القرار عند الطرفين. لكن المتتبع لوجهات نظر رئيس الحكومة وزعماء النقابات حول ملفات التقاعد وصندوق المقاصة يدرك صعوبة وقوع تراجع للنقابات عن قرار الإضراب الذي حددت تاريخه، وأيضا صعوبة وقوع تراجع الحكومة عن موقفها إلا في حالة واحدة تتعلق بالتدخل الملكي في الموضوع، ومن ثم فكل المركزيات النقابية، باستثناء النقابة التابعة لحزب العدالة والتنمية، قررت خوض إضراب وطني عام يوم 24 فبراير، مما ينذر بأن ما تبقى من عمر ولاية الحكومة سيعرف تصاعدا في الاحتجاجات وتزايدا في الاحتقان الاجتماعي تحت أسماء وشعارات متعددة قد يتسبب في انهيار الحوار الاجتماعي في سياق وطني صعب. -سبق للنقابات أن جربت سلاح الإضراب العام دون أن تنجح في إجبار الحكومة على الرضوخ للحد الأدنى من مطالبها، في اعتقادكم ما الذي يجعلها تستعمل نفس الأسلوب الآن؟ اعتقد أن حكومة بنكيران لم تترك للنقابات هوامش أخرى للتفاوض إلا سلاح الإضراب العام رغم قناعتها المسبقة بأنه لن يحقق غاياته وهو تراجع رئيس الحكومة عن تنزيل إصلاح صندوق المقاصة وصندوق التقاعد، لأنه يعرف أن له الضوء الأخضر من جهات عليا، كما قلت سابقا، من جهة، ويدرك محدودية تأثير الإضراب الذي دعت إليه النقابات في الرأي العام من جهة أخرى. – ما مصير الحوار الاجتماعي في ظل استمرار لعبة شد الحبل بين النقابات والحكومة؟ عدة مؤشرات تشير إلى أن مصير الحوار الاجتماعي سيزداد تأزما في ظل استمرار لعبة شد الحبل بين النقابات والحكومة وستكون له عواقب أخرى على مناخ الاستثمار الذي مازال يواجه صعوبات متعددة تتطلب توافقات مشتركة بين الحكومة والنقابات، في مقدمتها إشكالية الإضراب في غياب قانون يضبط شروط ممارسته. قانون يخلق نوعا من التوازن بين الحق في الإضراب وحرية العمل وضمان حقوق المقاولات ويحدد أن اللجوء إلى حق الإضراب يكون آخر الحلول بعدما تفشل آليات التفاوض والوساطة والتحكيم لضمان هيبة النقابة وحقوق الطبقات الشغيلة وحقوق المقاولات. – هناك تخوف حقيقي من أن انهيار أسهم النقابات وتفريطها في دورها وتراجع شعبيتها قد يفتح المجال مشرعا لاحتجاجات غير مؤطرة ألا تستحضر الحكومة هذه التخوفات؟ صحيح أن زمن الانتقال الديمقراطي الهش عرى وفضح حقيقة النقابات والأحزاب، خصوصا على مستوى التأطير والتمثيلية والتأثير في الرأي العام، الكل يعرف أن تراجع شعبية النقابات أصبحت ظاهرة عالمية وهو ما برهنت عليه الاستعراضات الأخيرة للنقابات حتى في فاتح ماي عيد الطبقات العاملة لأسباب ذاتية وموضوعية لا يسمح المجال لذكرها. لذلك فمغرب اليوم يعاني من واقع نقابي مخترق ومتأزم، ومن حكومة متعنتة، وشعب يعاني من ضياع حقوقه بسبب صراعات لا يفهمها بين النقابات والحكومة. لكن كما جاء في سؤالك هناك تخوف مشروع، وهو أن محاصرة العمل النقابي الديمقراطي يمكن أن يترك المجال مشرعا لاحتجاجات غير مؤطرة من الممكن أن تعرف انزلاقات تكون كلفتها قاسية بالنسبة للحكومة وللنقابات وللمقاولات، من ثم فمغرب اليوم في حاجة إلى عقلاء داخل النقابات والحكومة. وهذا ما جعل بعض القوى تدعو النقابات والحكومة إلى الانتباه لاستقرار البلاد وعدم اللجوء إلى المقاربات السياسوية الضيقة على حساب التوازنات الأمنية والاجتماعية في سياق وطني صعب، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، في حاجة لقانون إضراب يحدد شروطه وكيفية ممارسته حفاظا على استقرار المغرب الهش.