تكون قد مرت اليوم أكثر من سبعين سنة على حدث توقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال في الحادي عشر من سنة 1944، ولا تزال بعض تفاصيله تغري بالبحث والتنقيب، لأن حدث التوقيع كان هو الطريق السالك للحصول على الاستقلال بعد ذلك سنة 1956. سيجد محمد بن يوسف في مؤتمر أنفا المنعقد في يناير1943 المناسبة السانحة لطرح قضية استقلال المغرب، وإنهاء عهد الحماية لأول مرة كمطلب مغربي، بعد أن كانت المطالب تتوقف من قبل عند محطة الإصلاحات. مؤكدا أن مشروعية المغرب في المطالبة بالاستقلال أمر معقول، ومذكرا المجتمعين في المؤتمر بوقوف المغرب إلى جانب أوروبا في معركتها التحريرية. كان الخطاب موجها إلى رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية «فرنكلين روزفيلت»، ورئيس وزراء بريطانيا وقتها «وينستون تشرشل»، حيث كان المطلب هو قضية استقلال المغرب تماشيا مع مبادئ ميثاق الأطلسي. وقبل ذلك، كان السلطان قد رفض جملة من المطالب التي نادت بها سلطات الحماية، منها على الخصوص تلك الإصلاحات الفرنسية المزعومة والهادفة إلى تكوين حكومة مختلطة، نصفها من المغاربة ونصفها الآخر من الفرنسيين، وتنازل الملك لها عن سلطته التشريعية والتنفيذية، وتمتيع الفرنسيين المقيمين بالمغرب بالحقوق السياسية، على رأسها تمكينهم من نصف مقاعد المجالس البلدية والإقليمية والمركزية، رغم أنهم كانوا لا يزيدون على 350 ألف فرنسي، مقابل أكثر من 12 مليون مغربي وقتها. كل هذه المعطيات مجتمعة هي التي ستسهل لوثيقة المطالبة بالاستقلال أن تعرف النور. ولذلك اعتبر الكثير من المتتبعين أن سنة 1944 شكلت بداية العد العكسي لرحيل المستعمر الفرنسي عن المغرب. لأنها السنة التي سيوقع خلالها عدد من الوطنيين وثيقة المطالبة بالاستقلال حيث لم تعد مطالبهم مجرد إصلاحات في تدبير الحماية الفرنسية لعدد من الملفات، كما كان عليه الأمر عشر سنوات من قبل، والالتزام بما نصت عليه وثيقة الحماية نفسها، ولكن الأمر أضحى أكبر من ذلك بكثير. إنه مطلب الاستقلال الذي فاجأ الفرنسيين ودفعهم لارتكاب جملة من الأخطاء كانت سببا مباشرا في حصول المغرب على استقلاله بعودة السلطان الشرعي محمد الخامس إلى بلاده. ستختار الحركة الوطنية وهي تهيكل نفسها أن تلعب ورقة أكبر من مجرد المطالبة ببعض الإصلاحات، كما حدث من قبل، لتوقع وثيقة تقول بحتمية الاستقلال. إنها الوثيقة التي كانت بتوافق بين العرش والشعب، وشاركت في توقيعها كل شرائح المجتمع. ففي 11 يناير من سنة 1944، سيوقع عدد من الوطنيين الوثيقة التي أغضبت فرنسا وأخرجتها عن جادة صوابها. وستسلم نسخ منها إلى سلطات الحماية الفرنسية، كما سلمت نسخ منها إلى المقيم العام «كابرييل بيو»، وإلى القنصلين العامين لبريطانيا العظمى والولاياتالمتحدة، وإلى الجنرال ديغول، وسفير الاتحاد السوفياتي بالجزائر. مما يعني أن القضية المغربية أخذت صبغتها الدولية التي ستحرك ملفا انتهى إلى الاستقلال. غضبت فرنسا أكثر، ليس مما تضمنته الوثيقة من مطالب يلخصها ضرورة الحصول على استقلال البلاد، ولكن لأنها أدركت أن الخطوة لم تكن بهذه القوة لو لم تأخذ موافقة السلطان محمد بن يوسف. لذلك سيعتبرها الكثيرون وثيقة الملك والشعب، على صيغة ثورة الملك والشعب، لأنها شكلت محطة مهمة في تاريخ المقاومة المغربية، وخلاصة لجميع أشكال المقاومة التي خبرها المغاربة الذين لم يقفوا مكتوفي الأيدي منذ معاهدة فاس يوم30 مارس1912 من أجل اقتلاع جذور الاستعمار سواء في المنطقة التي كانت تخضع للاحتلال الفرنسي، أو في المناطق التي كانت تحت السلطة الإسبانية بشمال وجنوب المملكة الوطنيون يجتمعون مع السلطان في سنة 1944 تم تكثيف الاتصالات بين القصر الملكي ورجال الحركة الوطنية للتنسيق وتحضير الوثيقة وإعدادها والاطلاع على مضمونها حيث تم التداول بشأن الإضافات والتعديلات، ثم انتقاء الشخصيات التي ستتكلف بتقديمها، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف الشرائح الاجتماعية، وتمثيل جميع مناطق المغرب. ومن أهم ما جاءت به الوثيقة، «المطالبة باستقلال المغرب تحت ظل ملك البلاد السلطان محمد بن يوسف، والسعي لدى الدول التي يهمها الأمر لضمان هذا المطلب، وانضمام المغرب للدول الموافقة على وثيقة الأطلسي، والمشاركة في مؤتمر الصلح». أما على المستوى الداخلي، فقد ركزت الوثيقة على الخصوص على «الرعاية الملكية لحركة الإصلاح، وإحداث نظام سياسي شوري تحفظ فيه حقوق وواجبات جميع مكونات الشعب المغربي». كما اعتبرت الوثيقة مكسبا وطنيا وتاريخيا وقانونيا نظرا للطريقة التي صيغت بها. إضافة إلى أنها حققت إجماعا وطنيا كبيرا، عززه المغاربة بعرائض التأييد لمضمونها مما حمل المستعمر على القيام بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الحركة الوطنية للحد من أثر الوثيقة. وبعد أقل من شهر على تاريخ التوقيع على الوثيقة، وتحديدا في يوم 29 يناير1944 ، اندلعت مظاهرات عارمة بالرباطوسلاوفاس وغيرها من المدن. وتحديا لسياسة الاستعمار، قام محمد الخامس بزيارته المشهورة لمدينة طنجة يوم 9 أبريل1947 حيث ألقى هناك خطابا تاريخيا أبرز فيه تمسك المغرب بمقوماته التاريخية والوطنية وبمقدساته الدينية. ثلاث سنوات بعد ذلك، ستكون أمام محمد بن يوسف فرصة التأكيد على ما حملته وثيقة المطالبة بالاستقلال. لقد استغل زيارته لفرنسا سنة 1950 ليجدد مطلب الاستقلال، ويؤكد على أن المغاربة لن يقبلوا عنه بديلا، رغم كل التطمينات التي أعطيت حول إصلاح الإدارة، وإعادة النظر في طرق تعامل المستعمر مع قضايا المغاربة. وهو نفس المطلب الذي ظل يردد كلما أتيحت له فرصة اللقاء بممثلين عن دول الغرب من ابريطانيا وأمريكا. كان لا بد للمستعمر الفرنسي أن يرد بقوة على هذه الصيغة الجديدة التي تجاوزت مطلب الإصلاحات، إلى مطلب أكبر هو الاستقلال. لذلك أقدمت سلطات الحماية على خطوة نفي السلطان الشرعي وكل أسرته إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر، ما أدى إلى انطلاق شرارة المقاومة بكل أصنافها. مقاومة انتهت بعودة الملك من منفاه وإعلان استقلال المغرب. لقد تم تكثيف الاتصالات بين القصر الملكي ورجال الحركة الوطنية للتنسيق وتحضير الوثيقة وإعدادها والاطلاع على مضمونها حيث تم التداول بشأن الإضافات والتعديلات، ثم انتقاء الشخصيات التي ستتكلف بتقديمها، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف الشرائح الاجتماعية، وتمثيل جميع مناطق المغرب. لقد كان محمد الخامس يدرك أن الشعب المغربي، وفي مقدمته، طليعته الوطنية، قد اعتنق الفكرة القائلة إنه لا يمكن أن يتحقق أي إصلاح مجدي مهما كان جزئيا، إلا بعد الاستقلال وقيام حكومة وطنية لا رقيب عليها إلا الشعب. وقد ترسخت هذه القناعة منذ المؤتمر الذي ضم كل الهيئات الوطنية والمستقلة لتحرير وثيقة الاستقلال التي تمحورت حول مبدأين أساسيين هما المطالبة بالاستقلال الشامل، ومطالبة الملك برعاية حركة الإصلاح الداخلي. سيكون محمد بن يوسف أمام اختبار ثان وهو في المنفى حينما تم تهديده. لقد اقترح عليه المتفاوضون، بمن فيهم طبيبه الخاص الدكتور «ديبوا روكبير»، الخيار بين أمرين. إما التنازل عن العرش والعودة إلى أرض الوطن للعيش بسلام وفي حماية الفرنسيين، أو تشديد الخناق عليه في المنفى في حالة الرفض. فكان جوابه هو الرفض المطلق للمقترحات المفترضة، لأنه كان يدرك أن المغاربة لن يقبلوا بغير الاستقلال بديلا. وحينما هجم الجنرال «غيوم» على القصر الملكي بالرباط ليحمل العاهل المغربي بقوة السلاح والنار على التنازل عن قيادة الأمة ورئاسة الدولة، اكتفى محمد بن يوسف، كما نشرت وقتئذ كثير من الصحف الفرنسية، بابتسامة قائلا: «لقد عرفت المصير الذي ينتظرني، ولكن الموت أهون علي من خيانة بلادي». تزوير في لائحة الموقعين على الوثيقة ظلت الكثير من الأحداث التي رافقت فترة الحماية الفرنسية على المغرب، تكشف عن حقائق متباية أحيانا. ومن ذلك قضية هذه الوثيقة السياسية التي اعتبرت أول الطريق نحو الإعلان عن استقلال المغرب. فقد اعتبر بعض المؤرخين أنه وقعت أخطاء في مضامين هذه الوثيقة وفي عدد وأسماء الموقعين عليها. ومن ذلك ما كتبه عبد الله رشد في مؤلفه المعنون ب»المغرب والجلادون»، إذ أورد أنه وقع اختلاف في عدد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال. وكان صاحب كتاب «الوطنية المغربية» الفرنسي المقيم بالمغرب، أول من أعطى رقم 58. ونقله عن آخرون ممن تناولوا الموضوع. وبعد إعلان الاستقلال، ظهر في نشرات حزب الاستقلال رقم 66 اسما. وكلا الرقمين غير صحيح، بحسب عبد الله ابراهيم الذي أكد لي، يقول عبد الله رشد، أن الرقم الحقيقي للموقعين، أقل من ثلاثين! وهذا ما اعترف به عبد الكبير الفاسي في نهاية الثمانينات حينما صرح أن اللائحة لم تكن مضبوطة التوقيعات بحيث كان هناك من وقعها ولم يظهر اسمه، مثل العربي بن عمور، والإخوان السبتي، وأحمد بوعياد. وهناك آخرون لو يوقعوها إلا بعد تقديمها للمسؤولين. وأعطى مثلا بأخته مليكة الفاسي، التي يقدمها حزب الاستقلال كأول امرأة وقعتها. ولا يقول إن التوقيع حدث بعد فترة زمنية على تقديمها للجهات المعنية. وإنصافا للحقيقة التاريخية، فإن طالبات بمختلف المدن وقعن على نسخة من الوثيقة، وقدمنها للقصر الملكي تأييدا للمطالبة بالاستقلال. ويتضح من شهادة عبد الله ابراهيم وعبد الكبير الفاسي أن الوثيقة لم تكن بمنأى عن التحريف والتزوير، مثلها مثل كل ما يتعلق بتاريخ الحركة الوطنية. فالبعض تم تسجيل أسمائهم على الوثيقة بعد مرور مدة على تقديمها. في حين أن مئات النساء والرجال أتوا إلى الرباط من مختلف المدن وقدموها للقصر الملكي وللإقامة الفرنسية العامة يعلنون فيها تأييدهم لمطلب الاستقلال. فكيف يعطى الامتياز لأشخاص وقعوها متأخرين، ولا يحظى بنفس المعاملة الذين وقعوها وينتمون إلى مختلف المهن والفئات الاجتماعية. ومن بينهم من شاركوا في المظاهرات، ووهبوا أرواحهم فداء للاستقلال الوطني. إن حزب الاستقلال أراد أن يجعل من المطالبة بالاستقلال منتهى الكفاح وقمة التضحية. وكل ما سبقها وما جاء بعدها من مقاومة وتضحيات وشهداء، فهو ثانوي. وفي إطار التعصب الحزبي.. تدخل أساطير وشعوذة طرقية في تفسير أحداث التاريخ. فقد روى أبو بكر القادري، في حوار بجريدة العلم، أن الشباب أخذوا دماء من أجسادهم فكتبوا به تأييدهم لوثيقة المطالبة بالاستقلال». وكما وقع من تحريف في عدد الموقعين الاستقلاليين، فقد تكرر مثله عند القوميين. وكشف أحد القياديين في الحزب أن مسؤولا أضاف ستة أسماء إلى نص الوثيقة التي حملت توقيعات أعضاء الحركة القومية، كما جاء في مذكرات وذكريات أحمد معنينو. وصل عدد الموقعين من حزب الاستقلال 56. منهم 36 من مواليد فاس، و13 من الرباط، و7 من سلا. ومن القوميين وقع 26 كان من بينهم 5 تجار و7 ملاكين، و13 من رجال التعليم، و1 من القضاء. أما الحزب الشيوعي المغربي، فقد أصدر بعد وثيقة المطالبة بالاستقلال بيانا جاء فيه أن الحزب الشيوعي المغربي يعلن بكل قوة أن لا مصلحة للشعب المغربي في فك التضامن مع الشعب الفرنسي. ويدعو إلى الاتحاد أمام الاستفزازات». وذهب الكاتب العام للحزب، وهو ليون سلطان، وكان يهوديا جزائريا، إلى توقيع ملتمس مع بقية الأحزاب الفرنسية بالمغرب يطالب بإنزال العقاب الصارم على الزعماء الوطنيين المطالبين بالاستقلال. ما يشبه الخلاصة تكون قد مرت اليوم أكثر من سبعين سنة على هذه المحطة الحاسمة في تاريخ المغرب، الذي يبدو أن الأحداث التي أعقبت ما سماه محمد الخامس قبل أن يغادر إلى دار البقاء «الجهاد الأصغر»، لم تصنع الجهاد الأكبر الذي انتظره المغاربة. حيث لعبت الصراعات لعبتها، ودخل الأمير مولاي الحسن وقتها على الخط، ولم ينجح حزب الاستقلال وبعده الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في الخروج من جلباب المقاومة. ومع كل ذلك، فتاريخ الحادي عشر من يناير من سنة 1944 سيظل منعطفا في مسار مواجهة المستعمر الفرنسي. المسار الذي قاد المغاربة إلى الاستقلال. السلطان يرفض مطالب الحماية كان السلطان، قبل ذلك، قد رفض جملة من المطالب التي نادت بها سلطات الحماية، منها على الخصوص تلك الإصلاحات الفرنسية المزعومة والهادفة إلى تكوين حكومة مختلطة، نصفها من المغاربة ونصفها الآخر من الفرنسيين، وإلى تنازل الملك لها عن سلطته التشريعية والتنفيذية، وإلى تمتيع الفرنسيين المقيمين بالمغرب بالحقوق السياسية، على رأسها تمكينهم من نصف مقاعد المجالس البلدية والإقليمية والمركزية، رغم أنهم كانوا لا يزيدون على 350 ألف فرنسي، مقابل أكثر من 12 مليون مغربي وقتئذ. لقد اختارت فرنسا مواجهة هذا التحرك المغربي الذي جمع بين العرش والشعب، لذلك سارع بتجريب وصفة أخرى هي البحث عن سلطان بديل لمحمد بن يوسف. فحينما رفض السلطان الشرعي الامتناع عن توقيع الظهائر والمصادقة على قرارات الإقامة العامة واتجاهه العلني نحو اتخاذ موقف مساند لسياسة حزب الاستقلال، قررت سلطات الحماية تنحيته وتنصيب سلطان مصطنع مكانه يعمل كدمية تحت تصرفها. واستعانت من أجل ذلك بالأعيان الموالين لها والمجتمعين وراء عميلها الكلاوي باشا مدينة مراكش. فقد اجتمع يوم 20 مارس 1953 بالمدينة باشوات المدن المغربية الكبرى إضافة إلى عشرين قائدا، حيث حرروا عريضة تسير في اتجاه سحب الشرعية الدينية عن السلطان سيدي محمد بن يوسف كإمام. على الرغم من أن الفصل الثالث من وثيقة الاستقلال يتحدث عن «مساندة جلالته الشريف وحمايته ضد الأخطار المهددة لشخصيته أو لعرشه والعمل على ضمان طمأنينة.» لقد قرر الجنرال كيوم تنحية سلطان المغرب. وباتفاق مع الحكومة الفرنسية، حيث أبعد محمد بن يوسف عن المغرب يوم 20 غشت 1953.