كُلما قرأتُ شيئا خاصا واستثنائيا، كلما تأكدتُ مِن أن للكتابة مشاعر. الحدبُ على الكلمات، طيلة الليل، ودفعها نحو تركيب ما يُفرز مُتعة الجمال والمعرفة، يُؤكد، أكثر من ذلك، أن للكتابة جهازا عصبيا كاملا. جهاز يجعلها في علاقة مغايرة باللغة وبالشكل وبالعالم. علاقة تستند إلى توتر أصلي، يجنحُ نحو تركيب ما تطفح به الذات من تمزق في الوعي، في صيغ من الكتابة تنشدُ هارمونيا مغايرة، توسع من فُسحة العيش، ومن مسام الحرية، وتعيد النظر في مفهوم الجمال، فيما هي تنزل عميقا في الطبقات السفلى للكائن. إنها كتابة لا تكتفي، في جولاتها الليلية، بالتلصص على الحياة وإنما تتحلى بروح الحفّار. الكتابة، التي يعمل بداخلها هذا الجهازُ لا تدخل بيتَ أيٍّ كان. بل إنها تنتقي بعناية مَن يُمكِنُها أن تمنحه قلبَها، في هيئة توقيع شخصي يدخلُ تاريخَ الأدب من باب بابلي، عريقٍ بقدر ما هو مجهول. كتابة تشيح بوجهها أحيانا في غضب، وأخرى في لين، لا يُدرك أعماقه السحيقة إلا مَن يملك وسائل بالغة الرهافة في جس النبض وقياس درجات التوتر. كتابة تتمنَّع عَن كاتبها وقارئها وزمنها، لأنها تختار الولوج إلى عمق الحياة مِن باب تمزُّق قديمٍ بقدر ما هو ابن الغد. إنه ذلك التمزق الذي يجعل الحياة كنزا ينقص كل يوم، ويجعل الكتابة في مواجهة أبدية مع سؤال العدم. للعدم جاذبية الذي يمنح الكتابة تقديرا للإفراط. إنه ليس فقط إفراط العيش بامتلاء أو الزهد بلا حدود، بل أيضا إفراط تحميل الشكل ما لا يستطيع، على نحو يَقفُ به على حافة الانهيار، استعدادا لإعادة خلقه من جديد. إن الشعور بالخواء، كان دائما وراء البحث عمَّا لا يستطيعُ أن يُهدِّئ من الروع. وإذا كان الفن قادرا على تركيب نوع الترياق، فإنه لا يستيطع أن يفعل ذلك إلا بعدما مزّقَ الوصفات الجاهزة، واستحال إلى سائل يمتزج عضويا بدماء كاتبه. إنه ذلك العُصاب الضروري، الذي يجعل الكتابة منفتحة على المهاوي بأجنحة محترقة، حتى إن الخطر فيها هو جزء من النجاة. مشاعرُ الكتابة لا تنفصل عن تعقيد الكائن. وبقدر انفتاح مهاويه الوجودية، بقدر ما تتَعتَّم الكتابة، فتكون أميلَ إلى الدُّكنة. وشفافيتها، في هذه الحالة، تكون ملتصقة بِدُكنة تعتمل بداخلها حقيقة الكائن، الذي يشدُّ اللغة إلى أغواره، فيحملها بما طفحتْ به من أنوار وعتمات. إنَّ الحُبَ والخوفَ والترددَ والغضب واليأس والرغبة والقلق والإحساس بالقوة أو الانسحاق والضعف، كلها صفات تنسج مشاعر الكِتابة، وتصنع ذلك العُصاب الضروري الذي يمنحها قوة الاختراق. اختراقُ الثقافة وزمنها، على نحو يرفع النصوص الصادرة عنها إلى مقام الأعمال الخالدة. إن غضبةَ آخيل هي التي صنعتْ فنا خالدا هو فن الملحمة. وهي التي جعلت هوميروس يجدُ الشعور الضروري لإبداع الإلياذة. إنها، في رأي بورخيس، غضبة بطل شعر بالإهانة الشخصية من قبل الحاكم، كما شعر بالغدر المترتب عن قتل صديقه الفارس اليافع، فخاض الحرب كشأن مصيري، وباع للأب في النهاية «جثة الرجل الذي أهانه». إن الإفراط في الشعور بالغضب هو الذي أسس فن الملحمة، كما أن الإفراط في الإحساس بالذنب هو الذي كان وراء إبداع فن التراجيديا. الإفراط في الإحساس بالموت هو الذي جعل غنائية الشعر العربي تلتمس الخلود في المعلقات، كما تلتمس البلسم في استحضار آثار الزمن في مقدمة القصائد. الشعور بالحب أو العظمة أو الخواء هو الذي جعل نبتة الجنون تُعَرِّش في قصائد قيس والمتنبي والمعري، مُضوِّعة برائحة ما تزال تعبق حتى الآن فضاء عربيتهم الكريمة. إنها مجرد نماذج، لكن قوتها الحاسمة تدل على أهمية المشاعر في الكتابة.