من صفحة العار إلى صفحة الخجل والخزي. هذا قدرنا في الأسابيع الأخيرة، كأنما كتب علينا أن نخرج من فضيحة لكي ندخل في أخرى، فقد صدمنا الخبر الذي أفشته الصحافة الإسرائيلية حين سربت قصة جدار العار الذي كانت تجرى إقامته بعيدا عن الأعين لإحكام خنق غزة وإذلالها. وفى حين لا تزال أصداء الصدمة تتردد في داخل مصر وخارجها، فإن وكالات الأنباء نقلت إلينا أخبارا تحرك عدة مئات من الناشطين في أوربا والولايات المتحدة الذين قرروا أن يعبروا عن تضامنهم مع شعب غزة عبر محاولة كسر الحصار الذي يطوقهم، في ذكرى العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي انطلق في مثل هذا اليوم من العام الماضي (27 ديسمبر 2008). تزامن الحدثان على نحو يعمق من شعورنا بالخزي والخجل، فهؤلاء الأوربيون والأمريكيون جاؤوا من أقاصي الدنيا لكي يكسروا الحصار حول غزة، في الوقت الذي نقيم فيه نحن جدارا مدفونا من الصلب يحكم ذلك الحصار ويسد منافذه. وهي المفارقة المذهلة التي ما خطرت يوما ما على قلب بشر. اليوم وغدا كان يفترض أن يقف على أبواب غزة موكبان لأولئك النفر من الناشطين الشرفاء، قافلة «شريان الحياة» التي دعا إلى تنظيمها النائب البريطاني جورج جالاوي، وضمت 420 ناشطا، خرجوا من لندن في الخامس من شهر ديسمبر الحالي مستهدفين كسر الحصار، ومصطحبين معهم 70 عربة محملة بالمعونات الطبية والغذائية. اخترقت القافلة دول أوربا وحطت رحالها في تركيا التي استُقبلوا فيها بحفاوة بالغة. وهناك أضافت إليهم الجمعيات الأهلية 70 عربة أخرى حملت بكميات أخرى من المساعدات، من تركيا مرورا ببلاد الشام حتى وصلوا إلى الأردن. وفي الطريق، كانت تضم إلى الموكب سيارات وشاحنات أخرى. وحين بلغوا ميناء العقبة، كان موكبهم قد أصبح يضم 250 عربة مهيأة للانتقال إلى ميناء نويبع في الجانب المصري تمهيدا للانطلاق صوب رفح، حيث كان مخططا أن تصل الحملة إليه اليوم (الأحد) (المسافة بين الميناءين 70 كيلومترا، تقطعها العبارات في ما بين ساعة وثلاث ساعات). لكن مفاجأة كبرى كانت في انتظارهم حين وصلوا إلى العقبة، ذلك أن السلطات المصرية، التي كانت قد أعلنت عن التصريح لهم بالدخول، طلبت فجأة من المسؤولين عن الحملة أن يكون دخولها من ميناء العريش وليس ميناء نويبع. هكذا، بدلا من أن تعبر الحملة من العقبة إلى نويبع ثم تتجه بمحاذاة الحدود إلى رفح مباشرة، أو إلى العريش ثم رفح، فقد أصبح منظموها مطالبين بإحداث تغيير في مسارهم وتحمل معاناة وعذابات لا حدود لها للوصول إلى هدفهم، بعد أسبوع على الأقل من الموعد الذي حددوه، ناهيك عن التكلفة المالية الباهظة التي تتطلبها عملية شحن 250 سيارة محملة بالمعونات ومعها أكثر من 400 شخص، في بواخر تتجه جنوبا لتقطع كل خليج العقبة ثم تنعطف شمالا لتخترق خليج السويس. وتعبر بعد ذلك قناة السويس إلى بورسعيد على شاطئ البحر الأبيض، ومن بورسعيد تتجه شرقا إلى العريش ومنها إلى رفح. وهى مسافة تتجاوز ألف كيلومتر في البحر، لا تكاد تقارن بالسبعين كيلومترا التي كان يتعين قطعها للانتقال من ميناء العقبة إلى نويبع. ما لم يكن هناك تفسير معقول لهذا التصرف المفاجئ الذي يصعب افتراض البراءة فيه، فسيكون التفسير الوحيد هو أن مصر أرادت أن تعرقل العملية، وأنها إذا كانت قد وافقت رسميا على استقبال الحملة لأسباب إعلامية ودعائية، فإنها أرادت أن تجهضها من الناحية العملية. وهو افتراض إذا صح فإنه يشكل فضيحة من العيار الثقيل. وإذا كانت السلطات المصرية قد لجأت إلى هذا الأسلوب لعرقلة قافلة «شريان الحياة» التي قادها جورج جالاوي، فلا أعرف كيف ستتصرف مع مسيرة «تحرير غزة» التي يفترض أن تضم نحو 1350 شخصا سيصلون إلى القاهرة اليوم من 42 دولة وينوون الذهاب في حافلات إلى رفح مع نهاية هذا الأسبوع، علما بأن المسيرة تضم شخصيات لها وزنها في المجتمعات الغربية. وإذا استخدم معهم الأسلوب ذاته الذي اتبع مع حملة «شريان الحياة»، فإننا سنصبح بصدد موقف بائس لا يشرف مصر أو المصريين الذين يقف أغلبهم متفرجين وذاهلين حيال ما يجرى. الغريب أننا نقدم على تصرفات من هذا القبيل ثم نتساءل بين الحين والآخر: لماذا تغيرت مشاعر بعض العرب تجاهنا؟!