تدور الدائرة على وزارة الثقافة، بدون أن ندري على أي قدر تدور. وزارة الإسكان تسرح في الواحات المغربية بين فكيك وبوعرفة، في الشرق والجنوب، لترمم القصبات والقصور، وهو مجال يدخل في نطاق مسؤولية وزارة الثقافة، وأيا كانت مرامي هذا التدخل مثل غيره من التدخلات والذي يمس في الآن نفسه المدن العتيقة ومعالمها الحضارية والمصنفة كتراث وطني أو عالمي، وبظهير ملكي، من فاس إلى مراكش والرباط وتازة وطنجة... بمدارسها الدينية، وأسوارها ومساجدها وفنادقها ورياضاتها وحماماتها، وقصورها، وخاناتها، وقلاعها، وأبراجها، وأسواقها القديمة، وغيرها مما تزخر به من تحف ذات تاريخ عريق. تعود لقرون، لا يحمل فقط طينها وترابها بصمات أناس رحلوا، بل تشكل ذاكرة للشعوب والحضارات. وأمام ما يعتريها من تدمير وتخريب بفعل البشر أو بفعل عوادي الزمن، تطرح مسألة الترميم، الذي هو في الأصل الاهتمام بعمارة المباني التاريخية والأثرية، والعمل على إعادتها إلى ما كانت عليه وقت بنائها، أو إلى وضع مثالي بما أننا أحياناً لا نعرف كيف كانت بعض المباني وقت بنائها، وعليه فالترميم علم وفن وحذاقة، وله مدارس ومناهج عدة، تراكمت في سياق مجموعة من الإجتهادات أدت إلى بروز نظريات عديدة كان في مقدمتها قرار منظمة «اليونسكو» في دخول معترك الترميم والمحافظة على الآثار، مما أدى إلى ظهور منظمة «الإيكوموس» التي تمكن خبراؤها من الإتفاق على مجموعة من قواعد الترميم العالمية، حددتها وثيقة «البندقية» عام 1966، وتبعتها منظمة المدن الإسلامية التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بوثيقة «لاهور» 1980. وبذلك لم يعد المهندس المعماري هو الخبير في صيانة المباني التاريخية والأثرية، وإن كان الثاني يحمل بعض صفات الأول دون أن يقلل قيمته المهنية، لأن الترميم عملية معقدة، وتستدعي التعامل مع المعلمة التاريخية ليس باعتبارها جمادا، بل ككائن حي ناطق بحمولته التاريخية، فمميزات أثر تاريخي ينتمي إلى عهد الموحدين ليست هي مميزات الأثر الذي ينتمي إلى العصر الروماني أو إلى عصر السعديين أو العلويين، ومعرفة خصائصها تستدعي من المهندس معرفة تاريخ الإنسانية، وتاريخ البلد، ليس كحوادث ووقائع، بل كحضارة بما هي علوم وصنائع ولباس وطبخ ومعمار... والترميم معناه إبراز جميع التدخلات البشرية التي عرفتها هذه المعلمة على مر التاريخ، وليس تقديمها في شكل جديد يبهر الوزير الذي جاء من أجل تدشينها، أو توهيم المشاهد الزائر بأنها قديمة، فالتدخل يستوجب تقشير الطبقة الأصلية للمآثر متى كان ذلك ضروريا، وإبقاءها على حالها متى بدت متماسكة، حتى وإن بدت نشازا على ضوء الإصلاح، لكونها ستبقى علامة دالة على الترميم في الزمن الذي أنجز فيه، ونفس الأمر يتعلق بالنحت على الخشب أو الجبس. وينضاف إلى هذا العنصر، احترام المادة الأصلية للبناء، فكثيرا ما يتم استبدال التراب والجير وغيرها من المواد التي تدخل في تكوين البناء المعماري التاريخي بالإسمنت لتصبح المادة غير ذات معنى. دون التساؤل كيف صمدت عمارات من الطين من أربعة طوابق على مدى قرون، في حين هبطت عمارات من الإسمنت في زمن السكن الإقتصادي، وأخيرا وليس بالأخير، وجوب القدرة على التمييز بين المعمار الأصلي والتشوهات أو الإضافات التي تكون دخيلة عليه في زمن غير زمنه. وفي هذه الحالة فهي تستدعي الحذف إن لم تكن لها حمولة تاريخية وجمالية. هنا يختلف الأمر بين تدخل وزارة الإسكان وبين تدخل وزارة الثقافة، ومن هنا يكتسب المجال خصوصيته، فما لله لله وما لقيصر لقيصر. وإذا كان هذا لا يلغي الدور الذي يمكن أن تلعبه وزارة الإسكان ووزارة الداخلية من أجل إدماج وتأهيل المدن التاريخية ضمن السياسة الترابية لتحقيق التنمية السوسيو-اقتصادية، وضرورة تحسيس السكان بأهمية الحفاظ على إرثها الثقافي والعمراني والتراث الذي تزخر به وما تتسم به من غنى وتنوع، وبالرفع من مستوى عيشهم الإجتماعي والإقتصادي، لأن أصل العلة يكمن في الزحف العمراني الحديث الى جانب الإفتقار للموارد البشرية الكفأة وغياب التنسيق بين مختلف المصالح والمؤسسات المعنية بالحفاظ على التراث التاريخي، وعلى رأسها وزارة الثقافة التي تتوفر على الكوادر والأطر المؤهلة لأن تلعب هذا الدور، وبأن تقدم لها ميزانية محترمة، لا أن يرصد لها كما هو الحال بالنسبة لميزانية 2010، التي خصصت 2 مليون درهم لقطاع التراث، في حين حظيت الأغنية بدعم 5 ملايين درهم، وإن كنا لا نعترض على هذا الدعم، بقدر ما نتخوف من أن تدور الدوائر على وزارة اسمها وزارة الثقافة، بتقليص نشاطها في الرواية والمسرح، في أفق مسحها من خارطة الوزارات، ومشروع تفويت قطاع التراث مقدمة لذلك. فماذا تبقى لكم؟!.