عبد الباري عطوان أنهار من الحبر والدموع تتدفق هذه الأيام تباكيا على مأساة اللاجئين السوريين الذين يركبون البحر والشاحنات المبردة بحثا عن البقاء، وليس حياة كريمة، بعد أن تآمرت قوى عديدة، داخلية وخارجية، بحسن نية أو سوئها، على تدمير بلادهم، وقتل مئات الآلاف منهم. المفارقة الكبرى أن الدول العربية، والخليجية منها بالذات، التي صدعت رؤوسنا عبر امبراطورياتها الإعلامية والتلفزيونية الجبارة بدعمها للشعب السوري، وحرصها على تحريره من الطاغية، وتوفير الاستقرار والرخاء له، وتنفق مليارات الدولارات على تسليح معارضته، هذه الدول لم تستقبل لاجئا سوريا واحدا، وأغلقت حدودها في وجوههم، وأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى. الدول العربية الفقيرة المعدمة المسحوقة، الغارقة في الديون، وعجز الميزانيات، مثل الأردنولبنان ومصر، استقبلت مئات الآلاف من هؤلاء، بل الملايين في بعض الأحيان، وهي التي لا تملك ماءا كافيا لشرب أبنائها، ناهيك عن هؤلاء، فتحت صدرها لهم، وتعاطفت مع معاناتهم، بينما الدول العربية التي تملك مئات المليارات في صناديقها السيادية لا تريد أن تعرف، في موقف يتناقض كليا مع قيم العروبة والإسلام والمروءة والرحمة. الأوروبيون يستقبلون مئات الآلاف من هؤلاء ويقدمون لهم العون والمساعدة، ويفتحون لهم مدارسهم وجامعاتهم، ويوفرون لهم فرص العمل، ويمنحونهم جنسياتهم واقاماتهم الدائمة بعد سنوات معدودة تؤهلهم خلالها للتأقلم مع مجتمعاتهم الجديدة في ظل حماية قانونية مؤكدة. انجيلا ميركل مستشارة ألمانيا الاتحادية، تستقبل سنويا أكثر من 50 ألف لاجئ، ومن بين هؤلاء 350 ألف سوري، وتتعهد بأن لا تعيد من هؤلاء لاجئا واحدا، لأن هذا يتعارض مع قيم العدالة والإنسانية التي تؤمن بها، ويطالب وزير داخليتها توماس دي ميزر اليوم بتعديل الدستور لمساعدة اللاجئين بصورة أسرع، وأقل بيروقراطية والتصدي لمن يريد الاعتداء عليهم، ويخرج علينا أحدهم في إحدى القنوات «الإسلامية» ويقول إن السيدة ميركل تتزعم حزبا مسيحيا، ونخشى على هؤلاء اللاجئين السوريين من التنصير. شكرا لهذا الداعية على مشاعره الطيبة هذه، لكن نسأله سؤالا محددا وهو، لماذا لم تحافظ دولته على إسلام هؤلاء وعقيدتهم، وتفتح أبوابها لهم، أليست أولى بهم من ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا أو النمسا؟ من زار مخيم الزعتري في الأردن في بداية أزمة تدفق المهاجرين السوريين عبر الحدود بحثا عن الأمان من القصف، سمع قصصا مرعبة عن الذئاب الهرمة، المتخمة جيوبها بالمال، التي كانت تحوم حول المخيم مع سماسرة اللحم البشري بحثا عن فتاة قاصر لشرائها، بغرض متعة محرمة بلباس شرعي مزور، وهناك العشرات من التقارير والأفلام الوثائقية التي تؤكد ما نقول. حولوا الصبايا السوريات إلى سبايا، بينما حكوماتهم تشارك بالمجازر وتصب الزيت على نار الأزمة، ليس حرصا على الشعب السوري، مثلما تدعي، وإنما للثأر وإشفاء الأحقاد من رئيس سوري وصفهم بأشباه الرجال لتقصيرهم في مواجهة مشاريع الهيمنة الخارجية الذي ثبت بالدليل أنهم طرف رئيسي في تسهيلها وتمريرها، ولتورطهم في مخططات تفتيت هذه الامة وتقسيمها على أسس طائفية تحت ذرائع متعددة. توقعنا، وبعد أن شاهدنا أطفال سوريا وأمهاتهم جثثا تقذفهم أمواج البحر، أو أشلاء متحللة في شاحنات مجمدة، أو حرائر تتسول المرور عبر البوابات الاوروبية، توقعنا أن نسمع أو نقرأ فتاوى لشيوخنا الأفاضل مثل القرضاوي والعريفي والسديس والعودة والعرعور تلزم الدول التي يقيمون فيها بإيواء هؤلاء الضحايا، وتنتصر لهم ولمعاناتهم، مثلما انتصروا لهم في وجه النظام، ودعوا إلى الجهاد من اجل إنقاذهم، ولكن هؤلاء صمتوا صمت القبور، وما زالوا، فلماذا لا يطالبون السعودية وقطر والإمارات والكويت بنجدة هؤلاء؟ أليسوا مسلمين؟ أليسوا من أبناء المذهب السني؟ الألمان «الكفرة» ينظمون مظاهرات ضد العنصرية، ويطالبون حكوماتهم باستقبال اللاجئين السوريين دون قيود أو عوائق، وشاهدنا مشجعي كرة القدم في المدرجات يرفعون لافتات تطالب بالشيء نفسه، فلماذا لا يفعل شيوخنا الشيء نفسه، أو حتى ربعه، في وجه معظم حكامنا عديمي الإنسانية؟ الغرب «الكافر» يقدم الإعانات والتعليم والطبابة لهؤلاء «الإرهابيين» المسلمين، بينما الدول العربية، والخليجية منها بالذات، الغنية المتخمة خزائنها وأرصدتها بمئات المليارات من الدولارات، لا تسمح للمقيمين فيها من العرب والمسلمين، لعشرات السنوات بالطبابة في مستشفياتها، أو الدراسة في مدارسها أو جامعاتها، فكيف ستستقبل المهاجرين السوريين؟ وليتهم لا يريدون هؤلاء المهاجرين في بلادهم فقط بل يتدخلون في بلدانهم، ويرسلون الأسلحة والأموال لتدميرها، وبذر بذور الفتنة الطائفية فيها، لتصعيد أعمال القتل والتهجير، فإذا كنتم لا تريدون إكرام وفادة هؤلاء اللاجئين، نرجوكم أن تكفوا شركم عنهم، ولا تتدخلوا في شؤونهم، فمن يريد مساعدة السوريين في الداخل لا يمكن أن يتخلى عنهم في الخارج، وصححونا إذا كنا مخطئين. ازمة اليمن، والتدخل العسكري السعودي فيها أكملت شهرها الربع، ونراهن أنها ستستمر وستدخل عامها الخامس وربما السادس والعاشر، مثل نظيرتها السورية، والحصار الذي تفرضه دول التحالف السعودي برا وبحرا وجوا، اشرس بكثير من الحصار المفروض على سورية، على الأقل يستطيع السوريون الهرب الى لبنان والاردن، والعراق واوروبا، ولكن اين سيهرب اللاجئون اليمنيون وكيف؟ وماذا سيحصل لهم اذا كسروا هذا الحصار وتدفقوا بالملايين الى جارتهم السعودية؟ هل ستستقبلهم بحفاوة مثلما فعل اللبنانيون والاردنيون والاوروبيون، ام ستطلق النار عليهم لمنعهم؟ نحن نسأل فقط، ونعرف اننا لن نتلقى اي جواب، بل الشتائم والسباب كالعادة. بعد حرب الكويت عام 1991، اخطأ بعض العراقيين ولجأوا الى السعودية، ومن بينهم جنود واسرهم، ماذا حدث لهؤلاء؟ جرى وضعهم في مخيم رفحة في وسط الصحراء، وسط حراسة مشددة، وجرى منعهم من مغادرتها لاكثر من خمس سنوات، لانهم عراقيون، ودفعت السلطات السعودية مئات الملايين من الدولارات لمنظمات الاممالمتحدة الخاصة بشؤون اللاجئين لاستيعابهم في دول اوروبية مثل السويد والنرويج وكندا، ولم تسمح لواحد منهم بالبقاء في الممكلة ودفع اليأس منهم الى العودة الى عراق صدام حسين، ومعظم هؤلاء من الشيعة الذين ثاروا ضد الرئيس العراقي نفسه، اي حلفاء للسعودية التي استضافت نصف مليون جندي امريكي لاخراجه من الكويت بالقوة، وتدمير العراق لاحقا، وهذا يكشف الفرق بيننا وبين الاوروبيين الصليبيين. قبل سنوات دعيت لالقاء عدة محاضرات في كندا، من بينها واحدة في اوتوا العاصمة، وفوجئت بعدد كبير من الحضور من "الكويتيين"، وعندما سألت عن السبب قالوا لي انهم من فئة البدون، وهاجروا الى كندا وحصلوا على جنسيتها، ولكنهم ما زالوا يعتبرون انفسهم كويتيين، ويحنون الى الكويت ويعتبرونها بلدهم. اننا كعرب نقدم ابشع الامثلة في العنصرية، وليس هؤلاء الاوروبيين، فالاوروبي الذي يتعاطف مع هذا اللاجيء السوري الفار بحياته، ويحمل اطفاله على اكتافه، ويتحمل كل الضنك والمعاناة والاذلال، لا يسأله عما اذا كان سني او شيعي او اسماعيلي او علوي او مسلم او مسيحي، لانه يتعامل معه كانسان فقط يحتاج الى المساعدة. الغالبية الساحقة من اللاجئين السوريين الى اوروبا هم من السنة العرب، فأين هؤلاء العلماء الافاضل الذين يتباكون على السنة من منطلقات طائفية من هؤلاء، فاذا كان النظام ظلمهم ومسؤول عن ازمتهم ومعاناتهم، فلماذا لا يهرعون لايوائهم اذا كانوا صادقين فعلا؟ ثم اين المعارضة السورية، ولماذا لم تنتصر لهؤلاء، وتتحدث عن جحود داعميها العرب تجاههم؟ بعد كل هذه المواقف التي تتسم بالازدواجية والنفاق يسألون لماذا يتطرف الشباب المسلم وينضم الى "الدولة الاسلامية" و"القاعدة" وغيرها ويفجر نفسه هنا وهناك. لمعرفة الجواب رجاء اعادة قراءة المقال من بدايته.