حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. من كان يأمر الطويل بتنفيذ عمليات الاغتيال؟ الطويل شخصية غير مفهومة، لكن ما أخبرني به الصنهاجي أنه كان يأتمر بأوامر شخصيات حزبية معروفة، كانت تدفعه إلى أن يخرج في واضحة النهار ليطلق الرصاص على من يعارضون تلك الشخصيات. وقصة انصمامه إلى حزب الشورى والاستقلال تبقى غامضة جدا، رغم أنه لم يتخل عن مهنته القديمة. من تقصد بالشخصيات الحزبية المعروفة؟ لاشك أنها كانت تنتمي إلى حزب الاستقلال. – هناك من يستبعد فرضية تورط القصر في اغتيال عباس المساعدي لأن محمد الخامس كان يرى في جيش التحرير المنافس الحقيقي لأحزاب الحركة الوطنية، التي كانت تتنازع معه السلطة. أود أن أسألك عما إذا كان الصنهاجي أثار معك أي حديث حول وجود اتصالات بين المساعدي والقصر الملكي. لم يسبق له أن أثار مثل هذا الحديث بتاتا، ولم أعلم لا منه ولا من الرسائل أنه كان على تواصل مع الملك الراحل محمد الخامس، بيد أن عباس المساعدي كان ملكيا حتى النخاع ولا يمكن لأحد التشكيك في ذلك اللهم إذا كانت تصرفاته وسلوكاته وكتاباته أيضا ضربا من الإيهام ولا أخاله سيفعل ذلك. بطبيعة الحال روجت عنه أحزاب الحركة الوطنية، ممثلة في جماعة تطوان، إشاعات كثيرة، منها أنه يريد الانقلاب على السلطان محمد الخامس، وأتصور أن زعامات الأحزاب الوطنية أوصلت هذه الإشاعة إلى الملك. كانت تريد، حسب الصنهاجي، أن تحاصر المساعدي، لكن تحت مظلة الملك. بمعنى أكثر وضوحا، كانت تريد أن تضرب عصفورين بحجر واحد: محمد الخامس الساعي إلى استرجاع ما ضاع من سلطات على يد حزب الاستقلال وعباس المساعدي المنفلت من قبضة هذه الأحزاب. لا أتوفر على أي دليل يمكن أن يؤكد أو ينفي أن محمد الخامس تأثر بخطاب أحزاب الحركة الوطنية. – بعض الروايات تقول إن بعض تلك الشخصيات الحزبية، التي تحدثت عنها، كانت تسعى إلى توريط القصر في عملية اغتيال عباس المساعدي. بغض النظر عما جرى وعن ملابسات الاغتيال كان الجميع متوجسا من تداعيات الاغتيال، فالمقاتلون الذين كانوا يؤمنون بعقيدة المساعدي يتوفرون على السلاح الكافي لزعزعة أركان الدولة حديثة العهد بالاستقلال، ولتنفيذ اغتيالات ضد رموز الحركة الوطنية. من هنا يبدو من الطبيعي جدا أن ترمي تلك الأحزاب الكرة في مرمى القصر بكثير من التعسف أحيانا. لحسن الحظ أن مرافقي المساعدي، ومنهم عبد الله الصنهاجي، أذاعوا أن المهدي بنبركة هو قاتل المساعدي، ولذلك توقفت كل الإشاعات التي كانت تتحدث عن ملابسات اختطافه. – الصنهاجي كان أيضا في فوهة المدفعية لأنه كان من القادة الميدانيين لجيش التحرير. هل تعرض لمحاولة اغتيال أو هدد بالقتل؟ الصنهاجي مقارنة مع المساعدي رجل دبلوماسي، لكنه تلبس شخصية عباس المساعدي وتأثر به كثيرا. وهو لم يخبرني بأي شيء عن محاولة اغتياله، كما لم يخبرني بأنه سبق لأحد أن هدده بذلك. لكن رموز جيش التحرير في ذلك الوقت كانت كلها في فوهة البندقية بدون استثناء، لكن الذين اختطفوا المساعدي، ثم قتلوه برصاصة أخمن أنها طائشة، كانوا يعلمون أن نهاية جيش التحرير تعني بصيغة أكثر اختصارا نهاية عباس المساعدي بالنظر إلى تأثيره البالغ فيمن كانوا يساندونه، ومسانديه كانوا حاقدين جدا على أحزاب الحركة الوطنية. لقد خفت نجم جيش التحرير بموت عباس المساعدي. وذلك بالتحديد ما كان يريده من اختطفوه.