عادت إلى الظهور خلال الفترة الأخيرة ظاهرة الاقتصاص من اللصوص وقطاع الطرق من طرف الحشود الغاضبة في أزقة المدن وشوارعها، كما في الأسواق القروية. فقد جاء في الأخبار أن لصا محترفا فقد حياته أخيرا في ميدلت بعد أن رجمه جمع غاضب من التجار والمواطنين، بينما تمكن زميله من الفرار بحياته إلى حين. كما تضاربت الأنباء حول مصير لص «صغير» في الدارالبيضاء، قيل إنه فقد بصره بعد أن اعتدى عليه مواطنون حانقون بالضرب المبرح، لمحاولته مع شريك له (كانا يمتطيان دراجة نارية) سرقة فتاة. وقبل الدارالبيضاء وميدلت، تكررت الحكاية نفسها مرات عديدة من قبل، في كل من الفقيه بنصالح، وخريبكة، والجديدة، وسواها من المدن والقرى المغربية. هي الحكاية نفسها تتكرر من حين لآخر كلما وقع لص في قبضة السابلة، فينوب «شرع اليدين» عن «شرع المخزن»، ويؤدي اللص أو قاطع الطريق بحياته أحيانا ثمن مغامرة ظنها في البداية مأمونة العواقب. إن صور تلك الردود العفوية المباشرة للمغاربة تنتمي في الواقع إلى زمن مخالف ومختلف تماما.. زمن كانت خلاله سلطة «المخزن» ضعيفة أو منعدمة تماما خارج عاصمة البلاد وبعض الحواضر المهمة، فكان الناس يجتهدون تبعا لذلك في إنزال العدالة من خلال معاقبة المجرمين في اللحظة والحين، وباللجوء إلى ما عرف بينهم ب»شرع اليد». فيقتصون من المجرم جماعيا، من جهة لأن «الحمية تغلب السبع»، كما يقولون. وأيضا حتى يضيع دمه بين الفاعلين الذين سرعان ما يتبخرون في الطبيعة. ويكون دافع المقتصين الأهم في ذلك أن الجزاءات تقع في صميم العلاقة الجدلية القائمة أبدا بين النظام والفوضى، وبين السلطة والاضطراب. وبالتالي فإن من شأن العقوبة أن تكبح أية محاولات لمجرمين آخرين لتكرار الفعل الآثم المدان من جديد. ومن صميم ما يجري من اقتصاص خارج القانون من اللصوص والمجرمين في الزمن الحاضر، يداهم تفكيرنا الفضول ونتساءل: كيف كان شكل الجريمة والمجرمين في مغرب الأمس؟ وما هي العقوبات التي كان المغاربة ينزلونها بمقترفي الجرائم بشكل عام، واللصوصية وقطع الطريق بشكل خاص؟ من الصعب مرة أخرى فتح مرجع واحد أو مراجع في التاريخ والعثور على أجوبة شافية تروي ظمأ الفضول حول هذا الموضوع، كما هو الحال نفسه بالنسبة إلى غيره من الموضوعات التاريخية المغربية الأخرى. ولذلك سوف نلجأ إلى مصادر بديلة، من قبيل روايات المغامرين والدبلوماسيين الغربيين الذين زاروا مغرب ما قبل الاستعمار، ففيها يصادف الباحث مادة توثيقية ثرية تفيد كثيرا في رسم صورة تقريبية لِما كانت عليه الحياة الاجتماعية التي سادت بلدنا في الأمس البعيد، وضمنها مجال الجريمة والعقاب الذي يعنينا في هذا الملف. إن الجريمة سكنت ولا زالت تسكن المتخيل المغربي عميقا، خصوصا ما كان منها مرتبطا باللصوصية وقطع الطريق اللذان يعتبران نشاطين إجراميين يستفحلان في فترات الأزمة. ومن حاصل ذلك أنهما أنتجا مصطلحات ومفاهيم عدة تسللت إلى اللسان المغربي الدارج، عبر بوابة التراث، من خلال الأمثال الدارجة، والحكايات الشعبية، واللغة اليومية. فرشحت لنا منها كلمات لا زلنا نتداول استعمالها في سياقات متباينة حتى اللحظة، من قبيل: (زطَّط/زَطَّاط/ زَطَّاطة)، و(قشقش/التقشقيش) التي هي مرادف للسرقة، وفراقشي التي تطلق على لصوص المواشي، والنزالة، والسيبة (بمعنى غياب السلطة)، والمخزن (بمعنى سيادة السلطة)، الخ. في هذا الملف الأسبوعي، سوف نقارب أساليب وتكتيكات اللصوص قديما في سرقة التجار في الأسواق الأسبوعية القروية، وفي قطع الطرق. كما نقترح عليك عزيزي القارئ حكاية تنشر لأول مرة، جرت وقائعها قبل قرنين بمنطقة الشمال الغربي للمغرب، وكان بطلها أشهر قاطع طريق عرفه المغرب. كان يسرق الأغنياء فقط ويمنح جزءا من الغنيمة للفقراء، فيما يبدو نسخة مغربية حقيقية لشخصية روبن هود.الأسطورية، التي انتقلت من الفولكلور الإنجليزي إلى العالمية بفضل السينما. ولأن الجريمة اقترنت منذ الأزل بالعقاب، فإن صورة الجريمة والمجرمين في مغرب الأمس لن تكتمل في ذهن القارئ دون كشف أشكال العقاب التي كان المغاربة الأقدمون ينزلونها بالمدانين عن حق أو ظلم باقتراف جرائم.
قُطّاع الطرق وشراء الأمن في «بلاد السيبة» خريطة بلاد السيبة كانت تشمل أنجرة والريف كاملا حتى الحدود مع الجزائر لم تكن الطرق في بلاد المخزن دائما آمنة كلية، ولا كانت في بلاد السيبة خطرة دائما، بل إن الأمر كان نسبيا وخاضعا بالضرورة لظروف المكان والزمان. ولذلك اجتهدت بعض القبائل والزوايا في خلق أشكال من الحماية المؤدى عنها بشكل أو بآخر، حيثما كانت سلطة المخزن غائبة. «السيبة» و«المخزن» «السيبة» و«المخزن» عبارتان تستعملان حتى اليوم للدلالة، على التوالي، على ما يفيد معنى انفلات الأمن وسيادته. وهما كلمتان قديمتان تنتميان إلى قاموس المعرب القديم. سياسيا، يشير مصطلح «بلاد السيبة» إلى المجال الجغرافي الذي لم يكن مُؤمَّنا من المجرمين، لغياب أجهزة مخزنية تابعة للسلطان بداخله، خلال المراحل التاريخية التي سبقت الاستعمار الفرنسي. وكانت القبائل الواقعة ضمن مجال بلاد السيبة تمتنع عن دفع الضرائب للسلطان كنوع من عدم الاعتراف بسلطته السياسية، وكانت تكتفي فقط بالاعتراف بمكانته الروحية، باعتباره سليل الدوحة النبوية بحسب الرواية الرسمية. وتبعا لذلك كان سكان مناطق «بلاد السيبة» يسمون «سِيَّاب». وعلى العكس من بلاد السيبة كان مصطلح «بلاد المخزن» يطلق للإشارة إلى المجال الجغرافي الذي كان خاضعا لنفوذ السلطان وتحت سلطته، بأبعادها الدينية والسياسية والمالية. فكان السلطان هو من يعين بنفسه القياد والشيوخ والحكام، كما كان يشرف على حراسة المعابر والطرقات الرئيسية وحماية مرتاديها. ومن خلال استقراء الوثائق التاريخية لمغرب القرن 19، يبدو أيسر للباحث أن يرسم حدود بلاد المخزن من بلاد السيبة. فقد كان نفوذ السلطان يشمل على الخصوص فاس وناحيتها، والمنطقة الممتدة من الغرب وحتى طنجة، وكذا مناطق حاحا والشياظمة، ومراكش والحوز، وتافيلالت. وهكذا يمكن القول بأنه من الناحية الأنثروبولوجية والجغرافية كانت بلاد المخزن تضم قبائل العرب الرحل، ولم تكن تشمل مرتفعات تضاريسية. أما خريطة بلاد السيبة، فكانت تشمل أنجرة (ناحية طنجة)، والريف كاملا حتى الحدود مع الجزائر، والمناطق المحيطة بوجدة، وكامل الشرق المغربي حتى فكيك، ومناطق حول فاس وتازة، ثم مناطق انتشار قبائل زعير وزمور، ومرتفعات الأطلس. لكن خارج هذا التصنيف الخرائطي المختزل لكثير من الحقائق المغيبة على الأرض، والذي وظفته الإدارة الاستعمارية لخدمة أغراضها، ينبغي الاعتراف من خلال استنطاق الشواهد التاريخية، بأنه لم تكن بلاد المخزن دائما آمنة كلية، ولا كانت بلاد السيبة خطرة دائما، بل إن الأمر كان نسبيا وخاضعا بالضرورة لظروف المكان والزمان. على أنه كانت تربط بين بلاد المخزن وبلاد السيبة عادة منطقة وسطى شبه مخزنية – شبه سائبة، وكان المخزن يمارس فيها معظم وظائفه العادية بشكل غير مباشر أو بشكل جزئي. فكان مثلا يعتمد على زعماء بعض القبائل الذين يفوض لهم مهام جمع الضرائب من قبائل أخرى تكون قريبة من قبائلهم، في مقابل إعفائهم من بعض تلك الضرائب. عصابات قطاع الطرق كانت منطقة الريف تعتبر، بحسب السوسيولوجيا الاستعمارية، أكثر مناطق بلاد السيبة افتقادا للأمن في المغرب، وبقيت كذلك إلى حدود بدايات القرن العشرين. ولذلك السبب كانت طرقها ومسالكها الجبلية المكسوة بالغابات الكثيفة العذراء، تخيف العابرين لها من المغاربة والأجانب، بسبب الانتشار الواسع للصوص وقطاع الطرق بين جنباتها. وينقل مولييراس في كتابه «المغرب المجهول» عن شاهده الجزائري محمد بن الطيب بعضا من وقائع المغامرات التي اعترضته خلال رحلة تجسسه الطويلة بالمنطقة، والتي استغرقت أكثر من 20 عاما. ويورد مولييراس بعض أساليب عمل قطاع الطرق هناك، ومنها مثلا أنهم كانوا يختارون طريقا يمر بين مرتفعين ناتئين فيختبئ أحدهم فوق مرتفع عند بداية الطريق منتظرا قدوم ضحية. وعندما يرى قادما (أو قادمين) يدقق في هيئته جيدا كي يرى إن كان يستحق عناء أن يعترضوا سبيله ويسرقوه. وكان الاتفاق يجري بين أفراد العصابات أن يصرخ المراقب قائلا: «يا عامر !»، إذا بدا له أن الضحية لديه ما يستحق عناء السرقة؛ أو يصرخ: «يا خاوي !»، إذا استنتج بأن القادم لا شيء لديه يستحق اعتراض سبيله. وطبعا كان العابرون لتلك الربوع المنعزلة يدركون معنى العبارتين، ولذلك كان الدم يتجمد في عروقهم حين يسمعون صوتا يرتفع من الطبيعة فجأة صارخا: «يا عامر !»، إذ سرعان ما كان يتلوه ظهور لصوص مسلحين، يأمرونه بنزع ملابسه ووضعها على الأرض كي يفحصوها فحصا دقيقا. وعندما ينتهي التفتيش مع الأسئلة الموجهة للضحية والتي يقصد منها تحديد هويته ومقصده، يجمع اللصوص أغراض الضحية وملابسه في «حايك»، ثم يقيدون يديه خلف ظهره بحبل متين، ويتركونه عاريا في الطبيعة مع أمر صارم بأن لا يبارح مكانه قبل حلول الليل. ومن الطرائف التي نقلها مولييراس حول قطاع الطرق المغاربة بالمنطقة نفسها، أن بعض المنتمين إلى قبيلة ريفية معروفة كانوا مشهورين بكونهم لصوصا ورعين. فقد كانوا كلما اعترضوا سبيل غرباء إلا وأشهدوا الله والأولياء الصالحين على صلاحهم، وعلى أنهم كانوا مضطرين إلى قطع الطريق ليعيشوا، ويتحججون ب»صعوبة الوقت»، عسى أن يتفهم ضحاياهم ظروفهم.. شراء الأمن في بلاد السيبة لقد سادت في المغرب خلال القرن 19 أشكال مختلفة من الحماية كانت توفرها بعض القبائل والزوايا، وكانت خدمات تقدم إما للأفراد أو الجماعات (المسافرين والقوافل)، في مقابل الحصول على مبالغ مالية، ومن ضمن تلك الأشكال نذكر: «المزراك»، و»الزطاط»، و»النزالة»، و»تاكَمات»، وغيرها. أما الأمن الذي كان المخزن يوفره لرعاياه، فإن مجاله الجغرافي كان محدودا. ولتقريب الصورة أكثر، سوف نستعرض في ما يلي طرق اشتغال اثنين من أشهر أساليب الحماية في طرقات مغرب القرن 19 غير الآمنة، وهما «الزطاط» للعبور والنزالة» للإقامة. مع استفحال «السيبة» في مغرب القرن 19، أصبح التنقل عبر الطرقات خطرا جدا بحيث قد يكلف المسافر حياته. فظهرت نتيجة لذلك وظيفة جديدة سمي القائم بها «الزطاط»، وهو الشخص الذي كان يؤمن للمسافرين عبور طرق غير آمنة في بلاد السيبة. ومن الشروط التي كان مطلوبا توفرها في «الزطاط أن يكون طبعا رجل ثقة وقادرا على حماية المسافر الذي يرافقه في طريق غير آمنة ويرتادها اللصوص والقطاع، إلى أن يصل إلى مقصده. ولأجل ذلك جرت العادة أن يحصل الزطاط من المسافرين على مبلغ مالي يؤدونه له على سبيل الأجر، عندما ينهي مهمته. وحينما يتعلق الأمر بقبيلة، فقد يكون ثمن «الزطاطة» مبلغا ماليا يؤديه المسافر لها، في مقابل تأمينها للطريق له. وفي بعض المناطق المغربية، كان المسافرون يؤدون لبعض القبائل مبلغا ماليا معينا كمقابل للمرور فقط. وفي هذه الحالة تكون القبيلة هي من تقوم بمهمة قطع الطريق أمام كل من لم يؤد لها رسم المرور. والراجح أن السلاطين كانوا يتسامحون مع ذلك النوع من التجاوزات حتى لا تعلن القبيلة منطقة نفوذها «بلاد سيبة». وكان الزطاط يؤمن قوافل الحج كذلك، فيرافقها إلى أن تسلك بسلام طرقا وفجاجا غير آمنة. كما كان التجار يعتمدون عليه لحماية تجارتهم وأموالهم. ولسبب ذلك تحولت الزطاطة إلى مهنة اختصت بها بعض القبائل ذات النفوذ والمعروفة ببأس رجالها، مثل قبائل بني معقل، أو آيت عطا. ويرى بعض الباحثين أن اسم مدينة »سطات مشتق من كلمة»زطاط»، والسبب في ذلك أن المنطقة اشتهرت في الماضي بكثرة انتشار قطاع الطرق على طرقاتها، وبالتالي بكثرة «الزطاطة». وإلى غاية مطلع القرن العشرين استمر دور الزطاط في ضمان أمن المسافرين في ظل غياب الدولة عن أمن الطرقات، فكان الزطاط يعلق اسمه على حوانيت ودكاكين التجار الذين يحميهم في الأسواق والدروب، حتى يعلم المارة أن التاجر الفلاني يوجد تحت حماية الزطاط الفلاني. وكانت شخصية بعض الزطاطة ترعب اللصوص وقطاع الطرق كثيرا لبأسها واتساع نفوذها. ويذكر أنه سبق لفقهاء المغرب أن أفتوا في نازلة المقابل المالي الذي يحصل عليه الزطاط أو القبيلة الزطاطة، في مقابل حراسة أمن القوافل التجارية، فأفتوا بجوازه رغم أن أمن الطريق لا يجوز شرعا أن يباع. وضمن وسائل تأمين الطرقات الأخرى، كانت «النزالة» (جمعها: نْزايل) محطة استراحة على الطرق التي اخترقت بلاد المخزن. ومن حيث شكلها فقد كانت عبارة عن دوار مسيج بالأشواك، وبداخله بيت من الحجر أو الطين يقطنه حراس «النزالة». وكانت «النزالة « توفر للمسافرين الأفراد والقوافل الأمن والمبيت في مقابل أدائهم رسما على الدواب لا على الأفراد. وكان المشرفون على كل «نزالة» مسؤولين أمام المخزن عن سلامة النزلاء وممتلكاتهم، ولأجل ذلك كانوا يستعينون بكلاب شرسة لا تتوقف عن النباح بقوة ليل نهار، فضلا عن حراس مسلحين كانوا يقيمون في «النزالة» طبعا على الدوام. كما كانت بعض «النزايل» غير تابعة للمخزن، بل تخضع لإشراف بعض القبائل أو الزوايا. كما كانت «النزالة» تسمى في شمال المغرب «الدشر»، بينما في مناطق تواجد القبائل العربية كانت «النزالة» تعرف باسم «الدوار»، وهو مجموعة من الخيام التي كانت تدق أوتادها في شكل دائري، بحيث يخصص الوسط الذي يسمونه «المراح» لتجميع الماشية كي تكون محمية من اللصوص،.فلا يستطيع السارق اجتياز حبال الخيام بالماشية المسروقة. وكانت المسافة بين كل «نزالة» وأخرى على طرق «بلاد المخزن» تقدر بحوالي 40 كلم، لكن بعد تثبيت الإدارة الاستعمارية لنفوذها في أغلب جهات المغرب، استطاعت ضمان أمن الطرقات، فاختفى الزطاط وانحسر دور «النزايل» التي تحولت إلى قرى صغيرة، ثم إلى مراكز حضرية ومدن فيما بعد. ومن أشهر «النزايل» التي ما زالت تحتفظ باسمها القديم نذكر «نزالة بني عمار» في جبل زرهون، والتي أصبحت جماعة قروية تحمل الاسم نفسه حتى اليوم.
لصوص زمان.. بين الإجرام الفردي والعصابات تعددت أشكال اللصوصية قديما فحمل كل لون منها اسما خاصا، من قبيل «الفراقشي» و»القشقاش» و»كسار الأسواق».. فيما يلي سفر إلى ماضي اللصوص واللصوصية التي ما تزال بعض أشكالها تمارس بالاسم نفسه حتى اليوم في المغرب. من المعروف أن اللصوصية الفردية كانت نادرة في المغرب بسبب صعوبة الظروف الطبيعية والبشرية التي كانت تفرض على اللصوص أن يتعاونوا. ولذلك جرت العادة بأن يتكتل لصوص منطقة في جماعة يسيرها أكثرهم ذكاء وفطنة. وكانت عصابات اللصوص تعرف بعضها، فتتعاون فيما بينها متى تطلب منها الموقف ذلك. «الفراقشي و«القشقاش» و«الكسار» كان لقب «القشقاش» يطلق على اللص الذي كان يتعرى تماما ويدهن أطرافه بمادة دهنية تجعلها زلقة، ثم يزحف على بطنه خفية إلى الخيمة التي ينوي سرقتها، في ليلة مظلمة. وبعد أن يمزقها ويتسلل إلى داخلها، يشرع في البحث عن أشياء ثمينة: بندقية، ثياب، سرج حصان، وهو يمسك خنجرا حادا بين أسنانه. وإذا حدث وحاولت يد شخص ما الإمساك بأحد أطرافه، فإنه يخزها برأس خنجره الحاد. لكن «القشقاش» لم يكن يلجأ عادة إلى القتل إلا عند الضرورة القصوى، أي عندما تكون حياته أو حريته مهددتين. أما «الفراقشي» فهو اللص الذي يمارس النشل في الأسواق. وكان المغاربة لا يقبلون بأن يعيش بينهم «قشقاش» أو «فراقشي»، ولذلك كانت العائلات تطرد أبناءها الذي ضبطوا في سرقات من هذا النوع. فيتكتل «الفراقشية» و»القشقاشة» في عصابات تتنقل بين الأسواق لممارسة عملياتها الإجرامية، من خلال اللجوء إلى حيل فعالة مع أنها كانت غاية في البساطة. وفي هذا الصدد كان البعض منهم يختلقون عراكا فيما بينهم في سوق، وعندما ينشغل به الناس يقوم «قشقاشة» و»فراقشية» آخرون من زملائهم بسرقة مرتادي السوق الفضوليين. ومن الحيل الأخرى التي كانوا يلجؤون إليها في الأسواق أن يشيعوا بين المتسوقين بأن السوق يتعرض لهجوم اللصوص. فتنتشر الشائعة بسرعة مثل النار في الهشيم، وتسود الفوضى حيث يبدأ التجار الخائفون في جمع سلعهم، بينما يغادر المتسوقون السوق الذي لا يبقى فيه في النهاية سوى لصوص «الفراقشية» و»القشقاشة». فيشرع هؤلاء في سرقة التجار والسلع التي كانوا قد خططوا لها. ويسمى هذا النوع الممسرح من السرقة «تكسار السوق»، حيث كان القرويون يقولون عنه إن «السوق «تْكسر». ونظرا للفوضى الكبيرة التي كانت تنجم عن عمليات «تكسار السوق» فإن السلطة ممثلة في «الشيخ» أو «القايد» كانت نادرا ما تنجح في استتباب الأمن من جديد في السوق «المكسر». «الغْزُو».. لصوصية القبيلة كانت بعض القبائل معروفة بخوضها حروب لصوصية حقيقية ضد قبائل أخرى، فتغزوها بكل ما تحمله كلمة «الغزو» من معنى، وتسبي وتقتل وتسرق. ولهذا كان «الغْزُو»، كما سماه المغاربة، أكثر أشكال اللصوصية خطرا على المجتمع، إذ لم يكن يمارسه لص معزول ولا حتى عصابة من اللصوص، بل كانت تمارسه قبيلة أو تحالف قبائل ضد قبيلة أخرى. وهكذا وبعد أن يتم ترصد الجهة المستهدفة ما يكفي من الوقت لمعرفة عدد رجالها ودرجة تسليحهم وغيرها من المعلومات المفيدة، يجند ما بين 20 إلى 30 رجلا مسلحين، يكون نصفهم فرسانا مسلحين على خيولهم ليخرجوا عند موعد ليلي يحدده زعيم القبيلة/العصابة للغزو. وعندما يصلون على مقربة من القبيلة المستهدفة، كانوا يتجمعون تحت ستار الظلام فيفحصون أسلحتهم وينتظرون أن ينام الجميع في القرية التي يتهيؤون للإغارة عليها. وعندما يتأكد لهم ذلك، يشرع المشاة في التحرك بحذر للإحاطة بالدوار من كل الجوانب ويتكلف فريق منهم بذبح الرجال أو تقييد حركتهم، ثم يعطون الإشارة لفرسانهم ليهجموا على خيولهم مشكلين نصف دائرة على الدوار.. وبمجرد ما ينتشر الهلع والفوضى بين النساء والأطفال، ويشرعون في الركض في كل اتجاه بحثا عن الخلاص، تتوجه فرقة من الغزاة نحو الماشية والدواب ليقودوها في اتجاه قبيلتهم بينما يتجه غزاة آخرون إلى الخيام لنهب السروج والزرابي والأسلحة وكل متاع وبضاعة ذات قيمة، ثم يمزقون الخيام. عندما تنتهي عملية «الغْزو»، وينسحب الغزاة بعد أن يجمعوا جثث قتلاهم وجرحاهم، ليتجمعوا بعيدا عن القرية المنهوبة ثم يقفلون عائدين جماعة إلى قبيلتهم، التي يكون عليهم بلوغها قبل طلوع النهار. وفي اليوم الموالي، يقيم الغزاة وليمة للاحتفال بنجاح غزوهم ثم يقتسمون الغنيمة بحسب الاتفاق السائد بينهم. وكان رجال القبائل يخافون أن يتيهوا ليلا أثناء الطريق إلى غزو قبيلة، ولذلك كانوا يبحثون لهم عن دليل يعرف المنطقة جيدا ليقودهم في رحلتهم. وتحسبا لهذا النوع المنظم والخطر من اللصوصية كانت كثير من القبائل تسلح رجالها بالبنادق (قبائل الغرب، مثلا)، كما كانت تقيم من حول دواويرها وقطعان أغنامها حراسة مشددة كل ليلة. وكانت العادة جرت عندما تشكي قبيلة استفحال عمليات السرقة في صفوفها، أن يحكم السلطان بإنزال غرامة ثقيلة على أغنى رجال القبيلة للاشتباه في كونه هو المستفيد من عمليات السرقة. وبحسب شهادات تاريخية فإن تلك الخطوة رغم كل ما تنطوي عليه من ظلم سافر، إلا أنها كانت تكفي عادة لضمان استتباب الأمن وتوقف السرقات في القبيلة لردح من الزمن.
جن الغابة.. «روبن هود» مغربي من القرن ال19 سيرة أشهر قاطع طريق في مملكة المولى سليمان القصة التالية جرت وقائعها بمنطقة شمال غرب المغرب قبل قرنين من الزمان. بطلها شاب مغربي تمرد على حياة البؤس التي يعيشها والده الفلاح الفقير، ليتحول إلى قاطع طريق مشهور، لقد كانت فرائص الناس ترتعد لسنوات طويلة لمجرد سماع اسمه أو لقب من ألقابه المخيفة. وبعد مصرعه في حدود العام 1820م في ظروف مريعة، سكنت سيرته متخيل الناس على مدى أجيال متلاحقة، بمزيج من الانبهار والتوجس. ولم تكن قصة «جن الغابة» لتصل إلينا لولا أن دبلوماسيا أوربيا دون سيرته كاملة ونشرها ضمن مذكراته، وقد قمنا بتلخيص النص الأصلي الطويل بعد تعريبه، مع الإشارة إلى أن قصة أشهر قاطع طريق في تاريخ المغرب تنشر هنا لأول مرة بالعربية. تقول الحكاية إنه عندما كان السلطان مولاي سليمان يسير في ظل الشمسية الملكية، كان رجل يسمى محمد بوفراحي يسكن دوار (بنديبان) الواقع خارج طنجة، على بعد بضعة فراسخ على طريق فاس. كان له ولد وحيد سماه (علي)، بعدما توفيت أمه بمجرد وضعه، وأقسم على عدم الزواج ثانية وعلى أن يصرف حياته لتربية ولده اليتيم. مجرم في المهد كان محمد مثل باقي جيرانه فلاحا فقيرا لا يملك سوى قطعتي أرض وكرمة عنب، لكنه بالمقابل كان قناصا ماهرا. وصاحب تسديدات لا تخطئ هدفها. ومنذ سنين نشأة (علي) الأولى، لم يكن شيء يسعده أكثر من مرافقة والده العجوز في رحلات الصيد. فكان يرى ببصره الحاد الطرائد ويخبر عنها أباه الذي ضعف بصره، وقد تجاوز عمره الستين. لكن خارج ذلك، لم يكن علي يتقن فعل أي شيء آخر. فقد بعث به والده إلى الكتاب القرآني (المْسيد) كي يحفظ القرآن، لكنه لم يحفظ منه أكثر من عشر سور.. وبقدر ما كان فشل علي يتأكد في كل شيء، بقدر ما كان تألقه يكبر في مضامير الرماية والتسابق بالجري، وأنواع المبارزة المختلفة. فاشتهر في قريته الصغيرة بقوته وجرأته وبلقب «بُوستة»، لأن أصابع يده كما أصابع قدمه كان عددها ستة. كان الفتى علي يعشق حضور الحفلات والأعراس، فيتنافس بمتعة كبيرة ويبارز خصومه بلا كلل، ويخرج دائما منتصرا. لكن بمرور السنين بدأ محمد بوفراحي يزداد اقتناعا بأن ابنه غير مهتم بمساعدته في أشغال الفلاحة التي يعيش منها. وعندما اقترب موسم جني العنب تفاجأ محمد بكرمة العنب في أرضه وقد نهبت غلتها. وخلال الأيام صار الفلاحون يكتشفون تباعا في كل صباح أن كرومهم تعرضت بدورها للسرقة تعبأ الجميع في قرية بنديبان ووضعوا حراسا يتناوبون بالليل وبالنهار من فوق قمم الأشجار العالية على مراقبة حقول العنب، لكن بدون جدوى. فقد كان اللص (أو اللصوص) حذقا في خداع الفلاحين ومعاودة سرقاته. فيئسوا وأسلموا أمرهم لله. وذات صباح اكتشف محمد بوفراحي أن كمية أكبر من العنب سرقت من حقله، فاستشاط غضبا وحمل بندقيته وخرج يبحث عن أثر للص. كانت التربة صلبة وجافة لا تسمح باقتفاء أية آثار، وكاد محمد أن يستسلم لخيبته لولا أنه لمح في منطقة رطبة أثرا لقدم بشرية. وعندما اقترب أكثر صدم لهول المفاجأة، إذ كانت القدم مكونة من ستة أصابع، فاللص بكل تأكيد لم يكن سوى ابنه علي ! عاد محمد إلى بيته وواجه ابنه عليا بما اكتشفه وهو غاضب. لكن عليا لم يرد، فأخبره والده بأنه سوف يسلمه في الغد إلى «الشيخ» ويخبره بحقيقة السرقات التي اقترفها في حقول العنب ببنديبان، حتى تأخذ العدالة مجراها. وعلى ذلك افترقا. لكن في الصباح، ندم محمد بوفراحي على قراره وعلى كلامه الذي قاله لابنه، وقرر أن يكتم سر اكتشافه عن الناس وعن السلطة، ويكثف بالمقابل حراسته لابنه الوحيد عسى الله أن يهديه. فنادى عليه وكرر النداء مرات عديدة كي يخبره بقراره الجديد، لكن عليا كان قد غادر البيت. ومرت الأيام والأسابيع والسنين ولم يعد علي «بوستة». ففترت همة والده العجوز وحزن حزنا شديدا لغيابه. عقيقة ابن السلطان مرت ست سنوات على مغادرة علي لبيت والده، عندما أقام السلطان مولاي سليمان حفلات كبرى في العاصمة مراكش بمناسبة عقيقة (سبوع) ابنه الذي وضعته «السلطانة» لالة فاطمة. فاستقبلت للمناسبة المدينة أفواجا من الحكائين (الحكواتي)، والسحرة، ولاعبي الخفة وحواة الأفاعي. وانتشرت حلقاتهم في كل مكان من الساحة القريبة من مسجد الكتبية، واكتظت من حولها جموع المتفرجين. لكن رجلا واحدا كانت الأنظار مشدودة نحوه بانبهار وإعجاب أكثر من باقي صناع الفرجة الآخرين. كان البخاري رجلا أسود ينتمي إلى حرس السلطان وذا جسم ضخم، وقد تحدى في مبارزة بالعصي ستة رجال دفعة واحدة. وأمام الأنظار المنبهرة من خفة حركاته في اللعب بالعصا، هزم البخاري جميع منافسيه الستة تباعا، فوقف منتشيا بنصره يتحدى إن كان ثمة من يجرؤ على مصارعته. كان «البراح» يخرج كل يوم ليكرر في أرجاء مراكش صراخه في السابلة أن البخاري يتحدى من يجرؤ على منافسته، ويدعوه أن يأتي إليه في حلقته. وكان جميع الذين حاولوا قد هزموا شر هزيمة، فمنهم من كسرت ذراعه أو ضلعه، أو فقد عينه على يد بطل السفَّاحين الأسود. لكن في اليوم الثاني لاحتفالات العقيقة بأسبوع ابن السلطان تقدم إلى حلقة البخاري الجزار رجل عريض المنكبين، كان لباسه يشير إلى أنه «جبلي». خرج من بين صفوف المتفرجين وقبل برفع التحدي، شريطة أن يمنحه السلطان الحماية من انتقام رفاق البخاري، في حال توفق في هزمه. فبلغ ذلك إلى علم السلطان الذي لم يكن يبعد كثيرا، فأمر أن يحضر إليه «الجبلي»، وسأله إن كان حقا يجرؤ على تحدي المصارع البخاري الذي كانت ضربات يده تقتل من يتلقاها. كرر الجبلي شرطه على السلطان بعد أن ردد آيات الطاعة والولاء المعتادة. فسأله مولاي سليمان عن اسمه وموطنه. فرد عليه الجبلي بأن اسمه هو (علي بوفراحي)، وأخبره حكايته دون أن يشير بالطبع إلى قضية عنب بنديبان. فأمر السلطان بأن ينزل علي ضيفا عليه في القصر. وفي الغد، حضر السلطان المبارزة الحاسمة بين علي بوستة والبخاري، والتي انتهت بصعوبة بانتصار علي إذ أسقط خصمة أرضا. حصل علي على مكافأة مجزية من يد السلطان الذي أمر بأن تسلم إلى علي وثيقة توفر له الحماية من أي انتقام محتمل يطوله من البخاري أو زملائه. لكن علي كان قد تبخر بين صفوف المتفرجين، بمجرد نيله المكافأة واختفى. ظهور «جن الغابة» بعد ذلك بمدة قصيرة أصبح المسافرون العابرون للغابات الكثيفة القريبة من طنجة يروون حكايات مخيفة عن صوت يفاجئهم وسط غابة (دار عقلون) ويأمرهم بأن يتركوا متاعهم ويرحلوا، وإلا تعرضوا لأوخم العواقب. وطبعا كانوا يمتثلون للأمر خوفا على سلامتهم، ولم يكونوا يتبينون مصدر الصوت ولا كانوا في الحقيقة يسعون إلى ذلك. فانتشرت سريعا شائعة عن وجود كائن غير آدمي يسكن الأشجار، أطلقوا عليه لقب (جن الغابة). دار الزمن دورته، وفي أحد الأيام كان تاجران يهوديان متجولان قد حصلا بعض المال من بيع نساء القرى الحلي الرخيصة التي يعشقنها، وبينما هما في طريقهما وسط إحدى الغابات هوجما ليس من طرف الصوت الخفي الغامض الذي سبق لهما أن سمعا به، لقد كان قاطع الطريق هذه المرة «جبليا» من لحم ودم وذا بنية قوية. فأسرعا إلى بلع قطع النقود الذهبية التي كانت بحوزتهما، وعندما فتشهما قاطع الطريق بدقة لم يعثر لديهما على شيء. قَبَّل التاجران اليهوديان قدمي اللص وادعيا أنهما فقيران، لكنه أدرك الخدعة فأمسك خنجره وبقر بطنيهما وأخرج منهما القطع الذهبية وهي تقطر دما. ولم يكن اللص القاتل سوى علي برفراحي ! أياما بعد ذلك، كان فقيه عجوز يسير وئيدا على دابته في طريق العودة إلى قريته التي تقع بناحية طنجة، عندما شعر فجأة بخوف غامض ينتابه فهمز بغلته بشدة، كي تسرع السير حتى يلحق قافلة من البغال كانت تلوح في الأفق المنظور أمامه في أعلى تلة. كانت حكايات «جن الغابة» تشتعل في رأسه الأشيب بالخوف عندما تناهى إلى مسمعه صوت يأمره بأن يتوقف وإلا تعرض لطلق النار. فتوقف مرتعدا وشرع في تلاوة القرآن للحظات قبل أن يخرج علي من مخبئه ويكشف للفقيه مصطفى بأنه لم يكن سوى تلميذه الأسبق في «المسيد»، علي بوفراحي صاحب الأصابع الستة. أخذ علي الفقيه معه إلى «عشه» في أعماق الغابة وهما يتبادلان ذكريات «المسيد»أثناء الطريق، عندما كان اللص لا يزال بعد تلميذا كسولا وكان الفقيه يمعن في ضربه على يده ذات الأصابع الستة بعصاه التي صار يتكئ عليها، بعد أن نالت منه الشيخوخة. وعندما وصلا إلى كوخ يصعب الاهتداء إليه، خرجت منه امرأة جميلة وعانقت عليا بحرارة. إنها زوجته رحمة كما أخبر فقيهه السابق. عندما استراحا من عناء الطريق، حكى علي لضيفه كيف خطف رحمة من والدها ذات يوم بعيد، بينما كان يأخذها تحت حراسة مشددة ليزفها عروسا لمحصل ضرائب ثري بطنجة.. وكيف أنها بعد مقاومة من رحمة لمختطفها استمرت أياما، كان خلالها يحاول إطعامها وتهدئتها، قبلت رحمة بوضعها الجديد وتزوجت به عن طيب خاطر. لكن الناس في طنجة ونواحيها حاكوا أساطير حول ذلك، فزعموا أن جن الغابة الملعون خطف الفتاة رحمة من أبيها دون أن يشعر بشيء. في أعقاب فترة الضيافة، ودع علي الفقيه بعد أن منحه 30 مثقالا ذهبيا وأهداه أشياء أخرى ثمينة. لكن أياما قليلة بعد ذلك بعث «قايْد» طنجة رسالة إلى السلطان في مراكش يكشف فيها أوصاف جني الغابة المزعوم، ومكان مخبئه، ويوضح فيها بأن ابنة التاجر الفاسي المخطوفة توجد بحوزة قاطع الطريق صاحب الأصابع الستة. لقد كان لسان الفقيه مصطفى طويلا بما يكفي لفضح أمر تلميذه الأسبق، ولم ينتظر القايْد رد السلطان فأسرع بإيفاد عساكره إلى غابة دار عقلون، لكنهم وجدوا مخبأه فارغا. مطاردة فاشلة بعد ذلك، نقل علي مسرح عملياته إلى غابة المنصورة التي كانت تقع على مسافة ثلاثة أيام سيرا من مخبئه السابق. وأصبحت جرأته في قطع الطريق أكثر شدة من ذي قبل. وحدث مرة أن اعترض قافلة من الفرسان الأعراب فقاوموه وجرحوه بعد أن قتل ثلاثة منهم، وتمكن كالعادة من الفرار منهم رغم جروحه. وبقدر ما كانت مغامرات علي بوفراحي تنتشر في مغرب الربع الأول من القرن 19، بقدر ما كان يحظى بمعجبين. بين ناس قليلين يعرفهم وآخرين كثيرين لا يعرفهم. وبالقدر نفسه تزايد حنق السلطات عليه، وفي مقدمتها السلطان مولاي سليمان. وأمام تكاثر الشكاوى المتقاطرة على هذا الأخير في شأن «جن الغابة»، أصدر أمرا إلى «قياد» وحكام و»شيوخ» جميع المدن والقرى لمطاردة (علي) الرهيب والقبض عليه حيا أو ميتا. وخصص مكافأة بلغت قيمتها 300 مثقال ذهبي لمن يقبض عليه حيا. فخرجت حملات عسكرية تبحث عن علي بوفراحي في كل مكان، بينما لم يوقف هو عمليات قطع الطريق بجرأته العجيبة. والواقع أنه لم يكن علي ليتمكن من الإفلات من مطارديه المنظمين لولا وجود أنصار له في أماكن متعددة، كانوا يعطفون عليه بصدق ويتواطؤون معه. لم يكن علي يعترض طريق الفقراء، وكان جيرانه القريبون من مخبئه يوفرون له ما يحتاج إليه من المؤونة وينقلون إليه الأخبار، وكان إذا جرح يقصدهم فيعالجونه ويرعونه. وكان هو من جهته يعاملهم بسخاء ويحميهم من اللصوص الآخرين، ولم يكن يتغيب عن أفراحهم وأتراحهم فيقدم الهدايا الثمينة للعرسان ويواسي من فقد عزيزا. ولذلك السبب كانت دواوير معينة موضع شك من الجميع بكونها متواطئة مع أشهر قاطع طريق في مغرب ذلك الزمان. وقد كان جيران ومعارف علي بوفراحي بالفعل أوفياء له بحيث لم يخونوه عندما وضع السلطان مكافأة مالية كبرى مقابل القبض عليه. ورغم أن ذلك التواطؤ كان كافيا لتفسير الإفلات المتكرر لعلي من المطاردة التي اشتدت من حوله، إلا أن الناس لم يتوقفوا عن اختلاق الأساطير والمزاعم الغيبية لتبرير حصانته العجيبة. ومن ذلك حكاية راجت عن حمله ل»حرز» صنعه له فقيه (يدعى سيدي عبد الرحمن السوسي)، هو الذي يحميه من الطلق الناري ومن أن ترصده العيون المطارِدة. وذات يوم بلغ إلى علم «قايْد» القصر الكبير نبأ يفيد بأن علي استوطن إحدى الغابات القريبة، فخرج في عساكره بدون تأخير وحاصر الغابة، ثم أمر بإضرام النار فيها. وبعد انتظار استغرق وقتا طويلا تمكن علي من قتل «القايد» وبعض رجاله والفرار مع زوجته. العشاء الأخير لجأ علي وزوجته رحمة إلى غابة «السَّاحَل» وأقاما بين أحراشها المنيعة «عشا» جديدا. وأقام قاطع الطريق الأشهر علاقات اجتماعية جديدة مع سكان الدواوير القريبة من الغابة. وفي هذا الإطار تلقى علي نبأ زفافٍ قريب فقرر أن يحضره. وهو الولوع بالاحتفال بالأفراح والأعراس. واختار للمناسبة زوج خلخال ذهبيا كان قد سلبه لتاجر يهودي ثري ولفه في منديل حريري كي يقدمه هدية للعروسين، كما اعتاد أن يفعل. وعقب أوان صلاة العشاء ودع زوجته التي كانت حبلى في آخر حملها بعد أن وعدها بالعودة بعد ثلاثة ليال، ثم توجه نحو مكان إقامة العرس. فاستقبل علي بحفاوة، وبعد أن أعطى الهدية لوالد العريس انضم إلى الحضور وتقاسم معهم شراب العنب وتدخين الكيف بنهم غير معتاد لديه، إلى أن فقد الوعي وسقط أرضا. فتجمع من حوله رجال القبيلة شيبا وشبابا، وقد حسموا أمرهم بسرعة على أن يسلموه إلى السلطان كي ينالوا المكافأة الموعودة. عندما استرجع علي وعيه وجد نفسه مقيدا ورجال القبيلة من حوله يناقشون ما سوف يفعلون به. فحذرهم عجوز أعور كان يحرسه واسمه (قدور) من أن الجن تساعده. ونصحهم قدور بأن لا يثقوا في الحبل الذي قيدوا به يدي قاطع الطريق. ثم انتهى بأن أشار عليهم بأن يسلخوا جلد أخمص قدمي اللص حتى لا يتمكن من الهرب، إذا ما نجح في فك وثاقه. وكذلك فعلوا به رغم توسلاته الملحة. وعندما نام الجميع تحت تأثير الخمر والكيف، تمكن علي من فك وثاقه بصعوبة بالغة. وعلى الرغم من فظاعة الألم، فقد نجح في سحب نفسه خارجا ورمى نفسه في النهر الذي يمر بقرب الدوار ويجري في اتجاه البحر، فحمله التيار وغاب عن الوعي. وعندما أفاق وجد نفسه مرميا على ضفة النهر، واستغرقت منه العودة المؤلمة إلى وكره في الغابة أسبوعا كاملا. لكنه عندما دخل «عشه» وجد زوجته رحمة قد فارقت الحياة منذ أيام هي ووليدها من الجوع، وتحللت جثتاهما. فجزع علي للمنظر الرهيب الذي تمزقت له نياط قلبه. وبعد أن بكى عليهما كل دموعه، دفنهما قرب ضريح يتوسط غابة الساحل وأقام عند القبر لا يبارحه، وقد تحول إلى متسول يخفي وجهه عن زوار الضريح وعابري الطريق، ويقتات على ما يناله من سخاء المحسنين. النهاية لم يلبث الشك أن تسرب إلى نفوس بعض مرتادي الضريح، الذين ارتابوا في شخص المتسول الغامض الذي ظهر فجأة بعد اختفاء قاطع الطريق الشهير. ووصلت الشكوك إلى «القايْد»، ومن خلاله إلى السلطان، الذي أعطى الأمر بمداهمة الضريح الذي يقيم فيه المتسول الغامض واعتقاله. وتكلف عساكر قايد العرائش بالمهمة، دون صعوبة، حيث استسلم لهم علي دون إبداء أية مقاومة، لقد كان في الحقيقة فاقدا لكل رغبة في الحياة بعد وفاة زوجته وابنه. ومن مراكش أصدر السلطان شخصيا الأمر بأن تقطع يد ورجل علي اليمين، ويطلق سراحه حتى يكون عبرة يعتبر بها كل من سولت له نفسه أن يحدو حدوه. وبعد أن تم تطويفه في أزقة ودروب العرائش حيث كان يتعرض للضرب والإهانة من الرعاع، تم تنفيذ حكم السلطان فيه أمام الملأ. وقد حكى بعض الذين حضروا الواقعة بحسرة بأنه لم يتألم حين قطعت يده ورجله، إذ بدا كما لو كان غائبا عن الدنيا. وبعد انصرام أيام على ذلك وجده بعض زوار الضريح في غابة الساحل ميتا وملقى فوق قبر زوجته وابنه.
العقوبات.. بين «الشرع» والعُرْف ومزاج الحاكم تنوعت الجزاءات في حق المجرمين في مغرب ما قبل الاستعمار ما بين قطع الرؤوس، وبتر الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وأداء غرامة أو دية للقبيلة أو لفائدة ذوي الضحايا، والجلد، وغيرها. ومن خلال هذا الطيف المتباين من العقوبات، يبدو واضحا أن المرجعية تعددت ما بين «الشرع الإسلامي»، والأعراف القبلية، ومزاج الحكام.. في كل المجتمعات وخلال كل الحقب التاريخية، كانت الجزاءات تقع في صميم العلاقة القائمة أبدا بين النظام والفوضى، أي بين السلطة والاضطراب. ففلسفة العقاب تقوم على فكرة الردع وتقديم العبرة بالمجرم، حتى لا يتكرر الفعل الإجرامي. وفي الحالة المغربية، كانت الجزاءات مستويات حيث نجد العرف القبلي يلغي الشرع، ومزاج الحاكم يمكن له أن يلغي كلا من الشرع والعرف، ليأمر بتنفيذ عقوبة فيها من قسوة الاجتهاد ما لم يخطر على بال السابقين. لقد كانت الجريمة في المغرب دائما قضية تخص المجال الجماعي ولم تختص أبدا بالضحايا أو ذويهم. فالخوف من أن يتعرض الآخر بدوره لجرائم مشابهة يحرك في العامة نطاقا معقدا من التضامن، يجعل الجميع مسؤولين جماعيا أمام الجريمة ومرتكبها. وعندما يكون أثر الجريمة كبيرا، أو حيثما تكون سلطة «المخزن» غائبة، كان الناس يلغون أحكام الشرع الإسلامي المعروفة في حق مرتكبي الكبائر (القتل والسرقة والزنى)، ويرفضون الإنصات لصوت الفقهاء، ليواجهوا الجريمة بمنطق الرعاع. وسمي ذلك في القاموس المغربي «شرع اليد». لكن بعيدا عن ذلك المنطق العاطفي والانفعالي المنفلت والذي لم يكن دائما قاعدة، كانت الجريمة تواجه بتنويعات من الجزاءات التي لم تكن كلها تنتمي إلى الشرع الإسلامي، نذكر أبرزها في ما يلي.. «الشرع الإسلامي» والعرف القبلي إن الشرع الإسلامي يعتبر كلا من حرمة الجسد وإلحاق الأذى به في شكل جروح وبالقتل قضايا ترتبط بالمخلوق وبالخالق، بخلاف القضايا الأخرى التي ترتبط بالإيمان وطرق تصريفه، مثلا، والتي يحاسب عليها الله وحده. وتبعا لذلك، تراعى في قضايا الدماء مصلحة الضحايا بشكل كبير في الأحكام التي تصدر. وفي حالة جرائم القتل التي تعتبر أفظع الجرائم، كان ذوو الضحية يمنحون الخيار بين أن يقتصوا بأنفسهم من المجرم(ين) أو يحصلوا على ثمن الدم المهدور (الدية). لكن الدارس لموضوع الجريمة والعقاب في مغرب زمان يندهش من كون الجزاءات لم تكن واحدة في كل المناطق والمواقف. فالأعراف القبلية الأمازيغية مثلا كانت متسامحة كثيرا، ولم تكن تعاقب السرقة بقطع يد السارق أو قاطع الطريق ولا بقتلهما، على نحو ما كان شائعا في كثير من ربوع المغرب. ففي بعض قبائل الجنوب كانت عقوبة القتل مساوية لعقوبة السرقة وقطع الطريق والخيانة الزوجية، حيث كانت تقضي بدفع المتهم أو من ينوب عنه غرامة ل»الجّْماعة»، تبلغ عشرة «دورو». أما من قتل لصا أو قاطع طريق فلم يكن يعاقب كقاتل، إذ لم يكن ملزما بدفع أية غرامة. وفي قبائل مساط بسوس، كانت القبيلة تمنح المتهم بالسرقة أجل ثلاثة أيام كي يمثل أمام «الجّْماعة» للدفاع عن نفسه. كما كانت تشترط عليه إحضار 50 شخصا ليقسموا معه على براءته، في حال أنكر التهمة عن نفسه. وإذا انصرم الأجل المذكور أو لم يحترم المتهم الشروط المذكورة، فإنه يصير ملزما بتعويض الأشياء المسروقة لأصحابها. القَصاص ب«شرع اليد» ينقل إلينا الحسن الوزان في كتابه الشهير (وصف إفريقيا) الأجواء العادية التي كانت تحسم فيها جرائم القتل في فاس بداية القرن16 الميلادي. فالقاعدة جرت بأنه عند وقوع جريمة قتل مثلا، إذا كان في إمكان أهل الضحية أن ينتقموا بقتل الجاني بأنفسهم فإن لهم ذلك. أما في حال عجزهم عن الانتقام بأنفسهم، فينفى المجرم لسبع سنوات بعيدا عن موطنه، ويسمح له بعدها بالعودة بعد أن يدفع مبلغا متفقا عليه لذوي القتيل. وفي حال كان معسرا، يكتفي بتنظيم «معروف» [وليمة جماعية] يشارك فيه وجهاء القبيلة أو الجماعة. ويفسر باحثون هذا العرف من خلال تأويل النفي عن الموطن بمثابة نوع من «القتل المدني» أو لنقل الرمزي، يعوض تعريض الجاني بدوره لموت فعلي. بينما يرمز حفل المعروف إلى المصالحة الجماعية مع سكان الموطن باعتبار الجريمة كما أسلفنا تعتبر في عرف المغاربة مسؤولية جماعية. وتبعا لذلك لم تكن الجريمة في ذلك العصر من شأن القاضي، الذي كان يهتم فقط بحل نزاعات الديون والإرث. ويخبرنا الوزان كذلك بأنه كان في فاس عند بداية القرن الميلادي 16 سجنان، واحد مخصص للمسجونين على ذمة ديون أو جرائم أخرى خفيفة، بينما كان الآخر يأوي المجرمين القتلة، الموضوعين رهن إشارة ذوي المقتولين. ومن رغب منهم في الاقتصاص يتسلم غريمه ليقتله بنفسه، أما من رغب في الصفح بعد أن ينال مبلغ الدية فيكون له ذلك. وفي مدينة مراكش وخلال الحقبة التاريخية نفسها، يخبرنا مارمول من جانبه بأن السلطة كانت تمنح ذوي الضحايا الحق في إنزال العقاب الذي يشفي غليلهم بالمجرم، كأن يخنقوه، أو يذبحوه، أو يضربوه حتى الموت بالرماح أو بالخناجر، أو أن يبيعوه بكل بساطة كعبد، أو أن يشتري المجرم صفحهم من خلال منحهم تعويضا عن دم قتيلهم (الدية). الجَلْد وبتر الأطراف أما بالنسبة إلى جزاءات الجرائم التي تعتبر مخففة من قبيل الديون والسرقات التي لا تقترن بالقتل، فإن الجلد كان منتشرا، بعد أن يصدر حكم يقضي بعدد الجلدات التي يجب أن ينالها المتهم أمام أنظار القاضي. وحين ينال المتهم جزاءه، يؤخذ ليطاف به في الدروب والحواري وجسده عار مسلوخ بأثر السياط، مع إكراهه رغم الألم الرهيب على الصراخ بأعلى صوته، ليخبر الناس بالتهم التي بسببها عوقب. ورغم أن العدالة في مغرب زمان لم تكن خاضعة لنظام موحد إلا أن العقوبة الرسمية للسرقة كانت هي قطع إحدى يدي اللص، تنزيلا للعقوبة الواردة في الآية 38 من سورة المائدة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }. بيد أن الحكام المحليين (والسلاطين أحيانا) كانوا يخضعون المجرمين لعقوبات تتجاوز ذلك الحد الشرعي القرآني، إذ كثيرا ما كان المزاج الشخصي للحاكم أو درجة شهرة المحكوم بين الناس تمثل عوامل ترفع من درجة قسوة الجزاء. وذلك كان مثلا حال علي بوفراحي الملقب ب»جن الغابة» (نروي سيرته في الصفحة السابقة)، الذي أصدر السلطان المولى سليمان شخصيا أمرا بقطع يده ورجله اليمنى وتركه معاقا، حتى يكون عبرة تتسكع بين الناس لتجرئه على السخرية من رموز السلطة. وذلك بخلاف ما كان يمارس نادرا من قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو العكس. فقطع يد ورجل من نفس الجهة يشكل إعاقة تامة للمتهم. كما كانت ثمة عقوبة سمل عيون المجرمين بشتى الوسائل والأشكال، وهو جزاء لم يكن شائعا على ما يبدو، إذ رغم بعض الإشارات النادرة إلى هذا النوع من العقوبة إلا أننا لا نجد حولها كثيرا من المعلومات. ومن خلال عقوبة الجلد وأشكال التمثيل الأخرى بالجسد التي ذكرنا، نستنتج بأن التعذيب العلني للمتهمين كان يعد في الوقت نفسه طقسا عقابيا على الجريمة، وانتقاما يتخذ طابعا شخصيا من الحكام، فضلا عن كونه مثل آلية من آليات إخضاع الرعية بالرعب. السجن والمطمورة لا تتوفر معلومات عن أول سجن أنشئ في المغرب، ولا عن تاريخ السجون وسير عملها خلال الفترة التاريخية التي سبقت الاستعمار الفرنسي. والإشارات النادرة التي وصلتنا عن السجون في عهدي المرابطين والموحدين نفهم منها بأن السجناء لم يكونوا يستفيدون من أية رعاية، ويتركون فريسة للجوع والمرض حتى الموت. فالطعام الذي كان يصلهم بغير انتظام كان مصدره الصدقات، ولذلك لا نستغرب إذ نصادف إشارة عابرة إلى أن السجناء خلال إحدى مراحل العصر المرابطي كانوا يقتاتون على أعشاب يخرجونها من شقوق في سجنهم، أو إشارة أخرى إلى أن المجاعة استشرت خلال حصار الموحدين لمراكش أواخر عصر المرابطين، إلى درجة اضطر معها السجناء إلى أكل بعضهم بعضا، بعد أن قهرهم الجوع. ولا تتضح الصورة أفضل حول أحوال السجون في المغرب إلا مع أواخر القرن 19. ونقرأ في شهادات كثيرة لمصادر أوربية بأن الجوع والأمراض كانا ينهشان أجساد السجناء، وأن الضرب لأتفه الأسباب كان زادهم اليومي. وهكذا، وبحسب شهادة أوربي زار سجن طنجة خلال الفترة المذكورة، فإن ذلك السجن كان عبارة عن بناية متعددة الغرف في حالة يرثى لها وتتراكم في جوانبها القذارة. ويتمدد بداخلها السجناء على اختلاف مستويات جرائمهم، على حصير بئيس. وكان يحرس باب السجن شخص واحد مسلح. ويروي الشاهد أن السجناء كانوا يتوسلون إليه أن يمنحهم صدقة، خصوصا منهم الغرباء والذين لا أهل لهم ليحملوا إليهم أكلا من وقت لآخر، ويضيف بأن هؤلاء كانوا بسبب ذلك محكومين بالموت جوعا. وما هو أكثر قسوة وشهرة من السجن هو «المطمورة»، التي هي حفرة في الأرض كان الغرض الأصلي منها هو خزن الفلاحين للحبوب وبعض المنتجات الزراعية الأخرى، ثم طمرها وطمس أثرها بحيث لا يصل إليها اللصوص. لكنها تحولت في وقت من الأوقات إلى سجون رهيبة، وردت بشأنها شهادات مروعة من أسرى وعبيد أوربيين كانوا معتقلين بداخلها. وكثيرا ما كان السجناء يختنقون بداخل المطامير فتردم عليهم لتتحول إلى قبور بلا شواهد. إشراك اللص في الطعام ! جرت العادة أن يصبح اللص تحت رحمة من أمسك به. فيكون من حقه أن ينكل به كما يشاء، على نحو ما نلاحظه حتى اليوم من وقت لآخر في مناطق متفرقة من المغرب. لكن من أطرف الجزاءات التي كانت الأعراف القبلية تنزلها باللصوص في المغرب القديم، تلك التي كانت سائدة بين القبائل المنتشرة بين حوضَيْ نهر سبو ونهر ورغة. فقد كان من عادة اللصوص متى وقع الإمساك بأحدهم متلبسا بالسرقة في خيام قبيلة أن يسارع إلى التماس الرأفة من غرمائه، بأن يصرخ فيهم: «أنا في عارْكم!». والمعروف بحسب العقائد والعوائد المغربية أن الناطق بتلك العبارة يصبح تحت حماية المقصودين بها. وتبعا لذلك كان ضحايا اللص الذي «رمى العار»ملزمين بأن يتحولوا إلى حماة له، فلا يلحقوا به الأذى. ولا يسمحون لغيرهم بأن يقوم بذلك. بل إن العادة كانت تذهب أبعد من ذلك، فتقضي بأن يتحول الضحايا إلى مضيفين للص. فيطعمونه ويحادثونه بحثا عن معارف مشتركين بين الطرفين، ثم يقضي الليل في ضيافتهم، وفي الصباح يطلقون سراحه مطمئنين إلى أنه لن يعاود الكرة مستقبلا. فمن شأن مقاسمة اللص الأكل من طرف ضحاياه(«يتشاركون معه الطّْعام»، باللسان الدارج) أن تجعل منه بحسب المعتقد قريبا لهم، فيحرم عليه بالنتيجة أن يعود لسرقتهم مرة أخرى. ويبدو أن هذه الطريقة كانت أكثر نجاعة في ردع اللصوص من الجزاءات العنيفة أو الغرامات.
عندما كان الحاكَم «يتفنن» في إعدام المتهمين قطع الرؤوس لم تكن الطريقة الوحيدة للإعدام في مغرب زمان.. كانت عقوبة جز الرؤوس معروفة في المغرب باسم «الصبر»، وخصصت للمتمردين على المخزن وكبار اللصوص الذين يروعون الطرقات في «بلاد السيبة». وهي أبشع عقوبة سادت في المغرب القديم لا من حيث قسوة نزع الرأس عن جسد المتهم فحسب، ولكن أيضا لأنه كان يجري تعليق الرؤوس المقطوعة على أسوار المدن وأبوابها إلى أن تتعفن ويذهب لحمها، كي تكون تذكرة وعبرة للآخرين. لقد كان «الحاكْم» المختص في النظر في القضايا باسم السلطان، أقرب إلى قاض يشتغل في ظل الأحكام العرفية، بالمفهوم المعاصر للعبارة. فقد كانت سلطاته شبه عسكرية وأوامره فورية التنفيذ. وكان تحت نفوذه جهاز شرطة تنفيذي ينال أفراده مكافئات من فئات من المجتمع (من طرف التجار في فاس، مثلا)، عن كل لص أو قاتل يخلصون منه المدينة. وذلك لأنهم لم يكونوا يتقاضون أجرا عن عملهم. إسراع في التنفيذ ويشير تقرير بريطاني مؤرخ بالعام 1604 بهذا الصدد، إلى الطابع السريع للأحكام التي كانت تصدر عن «الحاكم». فبمجرد إدانته للمتهم، كان الجلاد يسارع إلى جز رأسه. وتكشف الوثيقة الصادرة عن مصدر دبلوماسي إلى أن الإعدام كان مصير كل من القتلة واللصوص والمتهمين بالخيانة الزوجية في مراكش، فضلا عن كل من ضبط بحوزته سلاح. وتؤكد وثيقة بريطانية أخرى صادرة في العام 1638 سرعة تنفيذ الإعدام بقطع الرؤوس. وتنقل مصادر تاريخية أخرى عن شاهد فرنسي طريقة إعدام أبشع من عملية قطع الرأس، وكان شاهد عيان عليها بمراكش في العام 1665. فقد كان الجلادون يرمون بالمحكومين على معاقف حديدية crochets كبيرة جدا، لتبقى أجسادهم معلقة فيها حتى يموتوا. وكان المحظوظون من المحكومين بالإعدام هم الذين تنجح المعاقف في اختراق أعضاء حيوية في أجسادهم (القلب مثلا)، بحيث يموتون سريعا. أما من تمسك فقط بأعضاء ثانوية من جسمه فإن موته يكون مروعا وطويلا، بحيث يستغرق احتضاره الرهيب بضعة أيام بلياليها. التشهير بالمجرم قبل إعدامه في غياب المطالبين بحقوق الضحايا في جرائم القتل، كان السلطان يمثل الحق العام خلال الفترة التاريخية نفسها تقريبا، فيتم تطويف المتهم في دروب مدينة فاس التي يكثر فيها الرواج، عاريا ومقيد اليدين، مع تلاوة صك الاتهام جهرا على مسامع العموم. وعندما يصل موكب التطويف إلى مكان الإعدام الذي يكثر بالضرورة إقبال الناس عليه، يقيد المدان إلى صليب ثم يذبح أمام الملأ من الوريد إلى الوريد. ويعلق جسده ليبقى معروضا أمام أنظار المارة والفضوليين لعدة أيام حتى ينال منه التعفن. ذلك كان حال المدانين بالإعدام من العوام في بداية القرن الميلادي 16، بحسب الحسن الوزان دائما. أما إذا كان المدان شخصا مهما فإنه لا يعرض للتشهير حيا. فقد جرت العادة بأن يتم نحره داخل السجن، ثم يطاف بجثته بعد ذلك في دروب المدينة المعروفة برواجها، مع تلاوة صك الاتهام الذي بموجبه جرى إعدامه. أما في مدينة مراكش وخلال الحقبة التاريخية نفسها، فيخبرنا مارمول بأن إعدام المجرمين الذين ينوب السلطان عن ذويهم، كان يتم فوق مرتفع أرضي تحيط به البيوت والدكاكين، بحيث كانت المشانق تلوح والجثث المذبوحة معلقة عليها، بينما كان إلى جانبها مدانون آخرون أحياء، مقيدون ومعلقون من دون ذبح. وكانوا يتركون أحياء تحت رحمة النظرات وتقلبات أحوال الطقس إلى أن يموتوا ببطء، من دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منهم أو مساعدتهم. ويضيف المصدر التاريخي نفسه بأن مدانين آخرين كانوا يعلقون من يد واحدة على المشانق وبطونهم مبقورة، ويتركون على تلك الحال المروعة ليحتضروا إلى أن يموتوا. هكذا كانت صور أقسى الجزاءات، بعد أن توقع بالمجرمين: أجساد ممزقة تحتضر ببطء، وإلى جانبها جثث مذبوحة معلقة على المشانق تتحدث بنفسها إلى العموم، لتقول بأن تلك هي المصائر التي تنتظر المجرمين، وبأن ثمة سلطة كائنة. الجلادون كانوا يهودا أو عبيدا ومن أجل تحمل بشاعة تلك الجزاءات الفظيعة، فرض على بعض الفئات الاجتماعية والدينية المهمشة في المجتمع المغربي القيام بمهام الجزارة البشرية، ومنها دور الجلاد الذي يتكلف بقطع الرؤوس، ونحر الأعناق، وقطع الأطراف. وبهذا الصدد يذكر التاريخ بأن العبيد السود منهم أو الأوربيون وكذا المغاربة اليهود، كانوا يوفرون لجهاز العدالة في المغرب القديم ليس فقط منفذين لعمليات الإعدام، بل وأكثر من ذلك على نحو ما سوف نرى. فخلال حكم المولى إسماعيل، كان نوع من الإعدام يقضي بأن يتم رمي المدان في الهواء من طرف أربعة جلادين شداد غلاظ، بشكل يجعله يسقط على رأسه عندما يرتطم جسده بالأرض، فتتكسر رقبته. وبحسب الوثائق المؤرخة للمرحلة فإن ذلك «التخصص» كانت لا تتقنه سوى فئة من العبيد السود، بحيث كانوا يعرفون كيف يطوحون بالضحية في الهواء بالدقة المطلوبة لكي تتكسر رقبته. وأما اليهود المغاربة، فإن اسم الحي الذي كانوا يقطنونه (الملاح) نفسه مشتق من كلمة ملح، وارتبط بهم بسبب قيام بعضهم قبل قرون بتمليح الرؤوس المقطوعة للمجرمين والمتمردين، قبل أن يطاف بها في أزقة المدن وتعلق على أسوارها وأبوابها. والظاهر أن تلك المهمة القذرة كانت مفروضة عليهم فرضا، لرفض المسلمين المغاربة القيام بها. وبحسب بعض الإشارات التاريخية فإنهم كانوا ينالون عنها أتعابا بخسة، وبقدر عدد الرؤوس التي قاموا بتمليحها.