مشكلة الدكتور محمد البرادعي أنه طالب بإصلاح سياسي حقيقي في مصر، وأنه شكك في إمكانية إجراء انتخابات رئاسية نزيهة في ظل الأوضاع الراهنة. إن شئت فقل إن مشكلته أنه أخذ الموضوع على محمل الجد، في حين أن ثمة توافقا ضمنيا على غير ذلك بين المشاركين في اللعبة السياسية، بمقتضاه تقوم في مصر مؤسسات شبيهة بتلك التي تتوفر للدول الديمقراطية، ولكنها ليست مثيلة لها بالضبط، بحيث يُستوفى الشكل وتغيب الوظيفة. والفرق بيننا وبينهم في هذه الحالة هو ذاته الفرق بين النظام الديمقراطي والفيلم الديمقراطي. البيان الذي أصدره المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية، وعرض فيه للمواصفات التي ينبغي أن تتوافر لأي انتخابات رئاسية حقيقية، خيب آمال بعض الذين رحبوا به في البداية. أعني أولئك الذين أرادوا له أن يكون أحد المشاركين في «الفيلم» المراد إنتاجه. ذلك أن المطلوب منافس محترم وقوي، لكي ينهزم أمام مرشح الحزب الوطني، سواء كان الرئيس مبارك أو ابنه. وفي هذه الحالة، ينجح الإخراج في أن يصور الفيلم على نحو أفضل. لكن الرجل، في ما صدر عنه، بدا معتذرا عن التمثيل ورفض أن يستخدم ك«دوبلير» للبطل المنتظر. ليس ذلك فحسب، وإنما كشف أيضا عن العورات التي أريد لها أن تظل مستورة، ونكأ جراحا مسكوتا عنها، أريد للزمن أن يداويها، وأن تظل في طي النسيان طول الوقت، ولذلك استحق الهجوم الذي شنته عليه أبواق موالاة الحكومة والحزب الوطني. وهو هجوم لم ينتقد الأفكار التي طرحها فحسب، ولكنه تحول إلى حملة تجريح لشخصه، اتهمته بكونه رجلا «مستوردا» ومحسوبا على الأمريكيين ومعدوم الخبرة السياسية. وذهبت إلى حد التشكيك في وطنيته، والادعاء بأنه «ما زال يحمل ضغينة لبلاده»، هكذا مرة واحدة (!) أغلب الأقلام التي هاجمته كان أصحابها ممن احتفوا بالرجل وتباهوا به حين حصل على جائزة نوبل، كما عيرَّ به بعضهم أشقاءنا العرب حتى قال قائلهم ذات مرة: كم واحدا عندكم حصل على جائزة نوبل؟ لكنه بما تكلم استحق الآن أن يدرج اسمه في القوائم السوداء. وهذا التحول من الحفاوة إلى الهجوم ليس مصادفة، ولكنه لم يتم إلا بعد إطلاق الضوء الأخضر، الذي ما إن تلقته الصحف القومية حتى شنت حملتها ضده. وكان ذلك واضحا في تعليقات رؤساء تحرير تلك الصحف. آية ذلك أننا وجدنا أن صحيفة «الأهرام» نشرت ملخصا للبيان الذي أصدره في الطبعة الأولى لعدد الجمعة 4 ديسمبر تحت عنوان يقول: «البرادعي يحدد موقفه من الترشح لانتخابات الرئاسة»، وهو عنوان موضوعي ومهني. لكن حين صدرت الإشارة الخضراء، فإن العنوان تغير في الطبعة الثانية بحيث أصبح سياسيا وهجوميا، فأصبح كالتالى: البرادعي يطالب بانقلاب دستوري لترشيح نفسه للرئاسة! الملاحظات التي أبداها البرادعي ودعا فيها إلى توفير شروط النزاهة للانتخابات لا تختلف، في جوهرها، كثيرا عن تحفظات رموز الجماعة الوطنية في مصر، إلا أن الحملة المضادة شددت على حكاية الانقلاب الدستوري، وادعت أن الرجل يريد أن يفرض شروطه على المجتمع لكي يترشح للرئاسة، علما بأن الذين عدلوا 34 مادة في الدستور دفعة واحدة، ومرروها على مجلس الشعب في خمس دقائق، هم الذين أحدثوا الانقلاب على الدستور، وعبثوا بالشرعية المنقوصة، التى يستبسلون في الدفاع عنها الآن. إن أسوأ ما في الحملة الراهنة أنها تقنعنا بأنه في ظل الوضع القائم لا أمل فى أي إصلاح سياسي، وأن من يريد أن يشارك في العملية السياسية عليه أن يقبل بالمشاركة في التمثيلية، التي تزوّر العملية الديمقراطية وتفرغها من مضمونها، وهو ما يضعنا أمام مفارقة مثيرة، خلاصتها أن الأصوات الوطنية في مصر تطالب النظام القائم بأن يصحح نفسه بحيث يبادر إلى إجراء الإصلاح، ولكن أبواق النظام ورموزه تصر على إغلاق هذا الباب، على نحو يدفع الجماعة الوطنية إلى عدم التعويل عليه في ذلك. وهو موقف لا يرتب إلا نتيجة واحدة هي أن تراهن تلك الجماعة على بديل آخر قد يرجى منه الخير المنشود، إن الدبة التي قتلت صاحبها باسم الغيرة عليه لم تفعل أكثر من ذلك!