سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شاب حوله «الإيدز » إلى شيخ هرم ومصابون يجاورون الأموات بين القبور لتبادل حقن المخدرات لم تعرف عائلته طبيعة المرض الذي أصيب به والذي قيل لها إنه يأتي من أوروبا
لم يكن هذا الرجل، وهو الآن في عالم الأموات وقصته يحكيها شقيقه الأصغر، يدرك أن بداية استهلاكه للمخدرات القوية ستكون بداية الطريق نحو النهاية الحتمية، الموت. حكاية إدمان عمر (وهو اسم رمزي)، بدأت في إحدى سنوات النصف الأول من الثمانينيات، أيام كانت المخدرات القوية تعني إحساسا بالتفوق وشيئا من الغرور والقوة. كان عمر من عائلة متوسطة تقترب من الفقر، لكنها كانت تبدو أعلى من مستواها بقليل، وهو ما دفع ابنها الأكبر إلى البحث عن صداقات خارج محيطه الاجتماعي، حيث التقى بشباب مثله من بين الأسر المعروفة في طنجة، وتحالفوا كلهم على سلك طريق الموت، منهم من غادر.. ومنهم من ينتظر. كان عمر يبدو لأبناء حيه من الفقراء وكأنه انسل منهم وغادر نحو مرافقة أبناء الذوات في المدينة، وكان أبناء الذوات ينظرون إلى عمر وكأنه متطفل عليهم وآت من حي فقير، لكنه في كل الأحوال اندمج في محيطه الجديد، وليته لم يندمج. مع مرور الأيام كان عمر يبدو أكثر نحولا، وشعره الأشقر الخفيف بدا وكأنه يتناقص شيئا فشيئا ويتحول لونه نحو البياض، وملامح وجهه تبدو أكثر انكماشا وكآبة، لكنه في كل الأحوال كان مثل أجنبي مرح في ملامحه وتصرفاته وأحاديثه. كانت أسرة عمر لا تدرك ما يقوم به ابنها في وسطه الجديد، لكنها لاحظت عليه تغيرا كبيرا في الشكل وفي الطباع، غير أنها لم تتصور أن ابنها أصبح مدمنا، وكانت ذراعه مثقوبة مثل “كسكاس” من فرط استعمال إبر الحقن، والتي كانت في ذلك الوقت من زمن الثمانينيات، شيئا غير معتاد بين سكان المدينة. مع مرور الوقت أصبح عمر يغيب عن منزل عائلته لأيام طويلة، ثم تحول الغياب إلى أشهر، وبعد ذلك غاب ذلك الولد الوسيم لأزيد من سنتين قبل أن يظهر في أحد أيام سنة 1989 من دون أن تتعرف عليه عائلته. ظهر عمر وقد أصبحت ملامحه مثل ملامح شيخ يخطو نحو الستين. عائلته صدمت بما حدث له، وعندما نصحه أفراد من العائلة بضرورة زيارة طبيب أومأ إليهم بحركة تائهة من رأسه أنه لا فائدة، لأنه مريض، مريض بالأيدز، كما وصفه وقتها، لكن الأسرة لم تفهم وقتها معنى ذلك المرض الغامض، وتطلب الفهم بحثا متواصلا لكي تعرف أنه مرض جديد وقاتل ولا يرحم مرضاه. في ذلك الوقت لم يكن مصطلح “السيدا” قد انتشر بعد، وكان الكثيرون يستعملون الوصف الأنغلوفوني وهو “الإيدز”، لكن في كل الأحوال فإن المرض واحد وإن اختلفت التسميات. أحس عمر وهو مثل شبح على فراش الأسرة، أنه أصبح عالة على غيره، وحاول في عدد من المرات أن يغادر إلى مكان مجهول لكي يموت تحت ظل شجرة، لكن قواه لم تسعفه، والأطباء كانوا يتصرفون معه وكأنه جثة تنتظر الدفن، وطنجة لم تكن فيها لا مراكز لعلاج السيدا ولا أدوية تخفف من المرض ولا رأي عام فهم أسرار هذا المرض القاتل. ربما يؤرخ تاريخ الموت بالسيدا أن عمر كان واحدا من الأوائل في العالم، وليس في المغرب فقط، من الذين غادروا إلى عالم البقاء. وربما استعرض عمر، وهو في النزع الأخير، شريط حياته القصيرة وهو يتبادل حقن المخدرات من يد إلى يد، ليدرك أن المصير الذي اختاره لم يكن موفقا بالمرة. مات عمر في أوائل التسعينيات وقال الناس إنه مات بمرض غريب يأتي من أوربا، لكن المرض كان قد استوطن بيننا وأصبح يحمل الجنسية المغربية. الموت اللغز الحكاية الثانية لرجل، عاد من أوربا ليدفن في طنجة، وكانت جنازته كبيرة وتخللتها تساؤلات محيرة تقول: كيف مات ذلك الشاب؟ وكيف عاد من أوربا في صندوق خشبي وهو ما زال في ريعان الشباب ولم يكن يشكو من مرض ظاهر؟ لكن الوشوشات التي تبادلها بعض الناس كانت تشي بأن ذلك الشاب الرصين، والذي لم يكن قد وصل الأربعين من العمر، كان ضحية مرض بدأه منذ حوالي عقد من الزمن، وهو مرض السيدا. تربى ذلك الشاب في أحد أحياء المدينة القديمة، حيث أمضى ردحا من طفولته وجزءا من شبابه. وفي وقت من الأوقات عن له ما يعن لكل الشباب في سنه ورحل إلى أوربا، بالضبط إلى هولندا، وهناك لم يكتب له أن يستقر طويلا لأنه عاد في كفن. لم يكن ذلك العائد إلى القبر معروفا بإدمانه على المخدرات ولا بمرافقته لمومسات ولا بمرافقته للأشرار ولا بأي شيء من الوسائل التي تقود إلى الإصابة بالسيدا، ومع ذلك فإن إصابته مؤكدة، والأطباء في هولندا قالوا لأسرته إن إصابته من المحتمل جدا أن تكون بدأت وهو لا يزال في المغرب، لذلك فإن إصابته بالفيروس ظلت لغزا إلى حد الآن، وحتى أسرته لا تريد اليوم أن تنكأ الجراح وتتحدث عن شيء انتهى. فالجميع يعرف لماذا مات ذلك الشاب الذي كان فخر عائلته، لكن لا أحد يعرف أين أصيب. يوميات موت معلن في مقبرة بوعراقية بطنجة، التي تشبه غابة صغيرة اقتطعت من الأمازون، يتعايش الأحياء إلى جانب الأموات، لكنهم في واقع الحال يتشابهون في المصير، مع أن مصير الأموات داخل القبور أفضل من الأموات فوقها. منذ سنوات طويلة والناس يعرفون أن تلك المقابر، التي توقف فيها الدفن قبل حوالي 4 عقود، تعتبر المكان المفضل لعشرات المدمنين الذين يستعملون كل أنواع المخدرات، بما فيها الحقن، والتي يتبادلها المدمنون، ليس في جلسة واحدة، بل في جلسات كثيرة. المدمنون المختبئون بين القبور، هم في الغالب من المتسكعين الذين يحصلون على مصروف الحقن من خلال التسول في الشوارع المجاورة. وعادة ما يتسول هؤلاء في الأسواق المجاورة، مثل سوق سيدي بوعبيد وسوق السمك والسوق الداخل وشارع الحسن الثاني وشارع المكسيك وشارع فاس. عدد من السكان المجاورين لهذه المقابر يقولون إن أولئك المدمنين يفوق عددهم أحيانا العشرة في جلسة واحدة ويقومون بتبادل الحقن من يد إلى يد، وهو ما سيجعل عددا مهما منهم مصابين بالسيدا، لكن المشكلة أنهم لم يخضعوا للفحص، وهو ما يجعلهم عبارة عن موتى متنقلين، ينقلون مرضهم القاتل إلى أشخاص آخرين. ما يجري في مقابر بوعراقية يتطلب تدخلا عاجلا من الأمن ومن المصالح الطبية، يقول أحد السكان المجاورين للمكان، ويضيف متسائلا “لماذا يعرف كل الناس أن هذه المقابر أصبحت قلعة لزرع مرض السيدا ومع ذلك لا يتحرك أحد؟”. لكن مقابر بوعراقية، بأحراشها وأشجارها التي تساعد على التخفي، لا تشبه حدائق المندوبية المكشوفة للجميع، ومع ذلك فإن كثيرا من المدمنين على الحقن يحقنون بعضهم البعض أمام أعين المارة في هذه الحدائق التي أصبحت اليوم فضيحة حقيقية على جبين الأمن والسلطات الصحية. ويمكن للعابرين قرب ذلك المكان أن يشاهدوا أشخاصا يجلسون أمام أعين الناس ويعرّون أذرعهم ويربطونها بقطعة ثوب ثم يحقنونها بحقن المخدرات. أحيانا يحدث ذلك على الأرصفة، وفي أحيان أخرى توجد مدمنات بينهم. المدمنون في هذا المكان يشبهون أشباحا، وتبدو على أجسادهم علامات الموت المبكر، ولو تم إخضاعهم لفحص إجباري فسيتم منع استفحال مرض السيدا بين مرشحين آخرين، لكن لا يبدو أن ذلك يهم أحدا. من الغريب أن المدمنين في مقابر بوعراقية، المخصصة لمقابر المسلمين، أو المدمنين في حدائق المندوبية، التي كانت قبورا للأجانب النصارى، كلهم يفضلون تبادل الحقن جنبا إلى جنب مع القبور. إنهم يفعلون ذلك وكأنهم يعرفون مصيرهم، أو ربما يفعلون ذلك من أجل أن يطردوا الخوف، الخوف من الموت الذي سيخطفهم عما قريب لا محالة.