رغم كثرة الزوايا والأولياء في مدينة فاس، إلا أن إخلاص أغلب أهل المدينة هو لمولاي إدريس، مؤسس المدينة، وليس من المبالغة أن له مكانة كبيرة ليس في أوساط سكان فاس فقط، بل في المغرب كله، ففي المخيال الشعبي المغربي ينظر إلى المولى إدريس على أن له منزلة كبيرة مقربة من الله، لكن بالرغم من ذلك فقد جاءت فترات، ساد أثناءها إحساس أن مولاي إدريس سقط في النسيان، إلى أن تغير ذلك يوم جاء إلى مدينة فاس شخص فار من سوريا بسبب مواقفه وأفكاره التي قيل إنها زندقة. فيومها كان الولي السائد هو سيدي حرازم، بتعداد أتباعه الكبير، حتى أن ذلك جعل السلطان مولاي إسماعيل قلقا من الحظوة التي بات يتمتع بها سيدي حرازم. وهو ما أثار التساؤل عند وصول ذلك الشخص السوري إلى المدينة الذي سرعان ما أعاد لمولاي إدريس مكانته، فهل استعمل السلطان بذكاء خيال هذا القادم من سوريا بسبب هرطقته؟ فقد كتب هذا السوري كتابا حول مولاي إدريس بعنوان « الدر النفيس» يكيل فيه المديح لمولاي إدريس، ويصفه فيه على أنه ليس فقط وليا كبيرا، بل إنه أكبر العلماء الذين عرفهم العالم، بالرغم من أن لا أحد من المؤرخين تكلم عن علمه. وعلى عكس المؤرخين زعم السوري أن إدريس يستقر قرب والده في مجلس وليلي، وأيد أنه مدفون في فاس، كما علم ذلك من حلم في مجلس المرابطين الذي يعقد صباح كل يوم في أولى السموات السبع. ولأن المغاربة لا يفرقون بين الحلم والتاريخ، فقد صدقوا ما قاله السوري بما فيهم السلطان، وفي اليوم الموالي قال رفقة بعض العلماء في مسجد مولاي إدريس إنه عثر في الأرض على جسد الولي بعظامه ولحمه، وأن إدريس استيقظ من موته ليطلب أن ينصب له قبر في هذا المكان، وهو ما نفذ على الفور. ومن حينها فقد سيدي حرازم بريقه، وكأن سلالة طردت الأخرى، وكأن أخا جرد أخاه من جاهه، واسترجع مولاي إدريس مكانه في قلوب المؤمنين، كما سرعان ما أصبح قبره مركز وقلب المدينة النابض، يودعه المريدون همومهم، وهو بدوره يعرف كل الأسرار، وجعله بورجوازيو المدينة على صورتهم، وألحقوا به كل عيوبهم. الصلاة في ضريحه تكفي لتشريفه، أما الهدية فلها القدرة على أن تقنعه أن قضيتك عادلة، أما مرافقة الهدية بموسيقى في ضريحه، فذلك كفيل بأن يجعل مصير طلبك محسوما لصالحك. وبدل القول ببساطة « لقد جئتك بهدية، فمن الأفضل أن تقول» جلبت لك كذا بالطبل والمزمار» وعلى مدار الساعات تهب مواكب مكونة من ثلاثة أو أربعة أشخاص إلى الضريح، يحمل أحدهم هدية في طبق من نحاس تنقل إلى قبره برفقة موسيقيين، فمولاي إدريس في الأخير هو الوسيط السماوي، حاجب الله، الذي لا يندر أن يسأله بدوره عن رأيه حول ما يجري في بلاد المغرب، حتى القطة لا تصيد الفأر إلا بعد أن يسمح مولاي إدريس بذلك، حتى المتسولون يتسولون باسمه أكثر مما يفعلون باسم الله. أما علماء القيروان والذين هم بمثابة دكاترة سوريون، يأتون لزيارته قبل أن يتجهوا لإلقاء دروسهم حتى يلهمهم في محاضراتهم، أما التجار فلا يفتحون محلاتهم قبل أن يرموا في صندوق الضريح قطعة نقدية كفيلة أن تجعل يومهم مربحا. حتى التجار الذين لهم تجارة مع دول أجنبية، لا يستهلون أي رحلة عمل ولا يباشرون أي صفقة قبل أن يطلبوا الأمان من مولاي إدريس، فترى الواحد منهم يردد « سأدفع الكثير للولي في حال كان مصير التجارة جيدا»، وهكذا يصبح الولي ضامنا لنقل البضاعة. ويحكى أن أحد أهل فاس كان يستقر في مدينة «منشيستر» بعث بالباخرة بعهدة شركة بريطانية، وفي الطريق نقصت كمية القطن بعشرين في المائة، وكانت مصلحة التاجر الفاسي تقتضي ألا تصل الباخرة بحمولتها سالمة وذلك طمعا في التعويض، فوعد مولاي إدريس بزربية في حل غرق القارب، وهكذا كان، غرق القارب، وحافظ الفاسي على وعده لمولاي إدريس، وعندما عوضته الشركة بملغ كبير، أهدى زربية رائعة من عشرين مترا طولا على عشرين مترا في العرض إلى مولاي إدريس.