على بعد 12 كيلومترا من النطاق الحضري لمدينة ابن أحمد الواقعة بإقليم سطات، وأنت تسير على الطريق رقم 3608 الرابطة بين المدينة سالفة الذكر وجماعة مكارطو القروية، تستقبلك كومة من الغبار تتطاير في السماء، تعلن لزوار المنطقة عن اقترابهم من المكان الذي استقرت فيه آليات ضخمة نغصت حياة سكان المنطقة، وجعلتهم يعانون على جميع المستويات . أكثر من ثمانية مقالع للأحجار، أو كما يصطلح عليها سكان المنطقة ب «الكاريانات» تستقر جميعها في رقعة جغرافية لا تتجاوز العشرة كيلومترات مربعة، تنفث دخانها الملوث للهواء، وتزعج المواطنين بأصواتها الصاخبة لدرجة أصبحوا يحسون معها وكأنهم فقدوا كرامتهم وإنسانيتهم، نظرا لعدم استفادتهم من أبسط حقوقهم في الحياة وافتقادهم لحياة كريمة. في هذا الربورتاج، نقترب من سكان المنطقة ونعيش حياتهم لفترة من الزمن لنميط اللثام عن معاناتهم ومشاكلهم، وعن الأضرار التي تسببها لهم هذه المقالع على مختلف المستويات الصحية، والبيئية، وكذلك على مستوى البنى التحتية. تملك هذه المقالع الضخمة عددا كبيرا من الشاحنات والآليات والإمكانيات التقنية واللوجستيكية الهائلة، التي تساعدها على تحقيق أرباح مرتفعة جدا، بالإضافة إلى طاقم من العمال يصل عددهم إلى 40 عاملا داخل المقلع الواحد، يعملون في ظروف قاسية جدا ودون أبسط شروط التأمين والوقاية من الحوادث، لمدة تبلغ 8 ساعات يوميا في شهر رمضان، ويمكن أن تصل إلى 12 ساعة خلال باقي الأيام العادية. وتتعامل مع كبريات الشركات لتصريف المواد التي تنتجها من رمل وحصى، كما تقوم بأداء مبلغ مالي مهم لجماعة مكارطو كل شهر، التي لا تستغل هذه المنح في إصلاح ما تسببت فيه هذه المقالع من أضرار، بل تحتفظ بها لنفسها، مقابل سكوتها عن الجرائم التي ترتكب في حق المنطقة وسكانها. دمار لحق بالبنى التحتية أصبحت الطريق رقم 3608 الرابطة بين مدينة ابن أحمد وجماعة مكارطو القروية في وضعية متدهورة وغير لائقة للاستعمال تماما، بفعل حركة السير الدائمة والكثيفة لشاحنات المقالع الضخمة التي تعبرها بسرعة فائقة، والمقدرة حسب أحد العمال ب 8 شاحنات كحد أدنى لكل مقلع حجري، أي 64 شاحنة بجميع المقالع، مما يفضي إلى المئات من الرحلات في اليوم الواحد. وللإشارة فإن هذه الشاحنات تخرق القوانين، وذلك بحملها حمولة ضخمة أكثر من تلك المرخص بها من طرف الجهات القائمة على هذا المجال. فالوصول إلى جماعة مكارطو باستعمال وسائل المواصلات أصبح أمرا شبه مستحيل وصعب المنال، حيث يعاني سائقو سيارات الأجرة التي تقل المواطنين والموظفين إلى الجماعة من صعوبة كبيرة في السير في هذه الطريق التي تتوسطها حفر كبيرة تهدد سلامة السيارات والراكبين في الآن ذاته، خصوصا في فصل الشتاء حيث المناخ الجوي القاسي. وتضاف إليها شاحنات وعربات النقل الكبيرة التي تجتاز الطريق بغرض الوصول إلى السوق الأسبوعي الذي يسميه سكان المنطقة «سوق الأربعاء» الواقع في قلب الجماعة، مما يعرض حياة السائقين لخطر الإصابة بحوادث السير، خصوصا أنهم يتجهون إلى السوق سالف الذكر خلال الفترات الليلية حيث تصعب الرؤية. ورغم احتجاج سكان المنطقة على هذا الوضع المزري، لم ينبهم سوى الإهمال والتهميش من قبل المسؤولين، ومن بينهم عبد العزيز مشهور سائق سيارة أجرة كبيرة بجماعة مكارطو، وينتمي إلى المنطقة ذاتها، والذي قال: «خضنا مجموعة من الوقفات الاحتجاجية والإضرابات أمام مقر الجماعة وفي جنبات الطريق ومنعنا المرور على الشاحنات القادمة من المقالع بتشكيل حواجز طرقية، وتلقينا وعودا بخصوص إصلاحات سيقومون بها وتعويضات سيقدمونها لنا، لكن كلها كانت إدعاءات كاذبة» وأمام هذه الحالة المزرية، امتنعت المدارس الخاصة عن إرسال سيارات نقلها إلى هذه المنطقة، لتقل أبناء سكانها الراغبين في تسجيل أبنائهم في صفوف التعليم الخصوصي، هروبا من تدهور الخدمات التعليمية بالقطاع العمومي وخصوصا في البادية، مما قد يؤثر بشكل سلبي على المستقبل الدراسي للأطفال. بالإضافة إلى مجموعة من المنازل القديمة منها والحديثة، التي تعرض بعضها لشقوق والبعض الآخر انهار، حسب ما أفاد به نور الدين الحريري بلحسن وهو أحد القاطنين بالمنطقة، الذي يلاحظ من خلال المعاينة البصرية أن جزءا كبيرا من منزله انهار ولم تبق سوى الأحجار التي كانت تكونه متناثرة هنا وهناك، بفعل الألغام التي تستعملها المقالع لتفجير الصخور الصلبة. المشاكل البيئية يقول امحمد منياني، أحد سكان المنطقة، بأن أراضيهم الزراعية تعرضت لضرر شديد، مما أدى إلى تدهور المحصول الزراعي وقلته في السنوات الأخيرة. وهذا ما يشكل خطرا وتهديدا لحياة السكان نظرا لاعتمادهم على الأنشطة الفلاحية بشكل كبير كمورد أساسي لاستيفاء حاجياتهم المعيشية، حيث قال: «المحاصيل قلت وشحت منذ استقرار هذه المقالع بالمنطقة» وأفاد أن القطاني وخصوصا العدس من أبرز الزراعات التي تضررت، مضيفا أن الضيعات الفلاحية التي تعتمد على تقنية الري، والتي يصطلح عليها سكان المنطقة باسم «البحاير»، تعرضت هي الأخرى كذلك للتلوث الشديد، بحيث فقدت أراضيها خصوبتها، بسبب الغبار الكثيف الذي غطاها وأعطاها طابع القحولة . وهذا راجع من خلال المعاينة إلى عدم اتخاذ هذه المقالع الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية الأراضي، والمتجلية في تشكيل حاجز باعتماد أشجار يصل طولها إلى 3 أمتار فما فوق، واستعمال أنابيب الماء أثناء عملية الطحن، لمنع وصول الغبار إلى السكان، حسب ما تنص عليه قوانين المقالع . كما أن الغبار طال فاكهة التين الشوكي، التي يتخذها السكان كغذاء أساسي خصوصا خلال فترة الصيف، مما أفضى بهذه الفاكهة إلى الشح في الإنتاج، وحتى إن كانت هناك ثمار فأغلبها يكون ملوثا، هذا بالإضافة إلى أشجار الزيتون التي استبدل لون أوراقها الأخضر بآخر رمادي. كما تعرضت الغابة الشاسعة المسماة «غابة سيدي السبع» المجاورة للمقالع، لضرر شديد، وفقدت زوارها الذين لطالما اعتبروها أنسب مكان لقضاء نهاية أسبوع هادئة، دون أن ننسى الفرشات المائية والآبار التي جفت وتلوثت، ونخص بالذكر الحاجز المائي تامسنا «السد» الذي دشنه الملك محمد السادس بالمنطقة سنة 2006. كما يفقد الفلاحون من وقت لآخر بعض مواشيهم التي يعتبرونها جزءا لا يتجزأ من حياتهم القروية، وقال أبو عزة المنياني بن التومي، الذي يجاور منزله المقالع: «كل سنة نفقد عددا هائلا من المواشي بفعل الغبار الذي تستنشقه وماء الآبار الملوث الذي تشربه والمحاصيل غير الصالحة التي أصبحت تتغذى عليها» . وحسب تصريحات الفلاحين، فإن الشاحنات تصيب من حين لآخر الماشية التي تستقر على جنبات الطريق فتتسبب لها غالبا في الموت الفوري، أو في إصابات خطيرة لا تبعد عنها الموت إلا لأيام معدودة . وأمام ذلك أصبحت المنطقة مغطاة بطبقة سحاب سوداء يظهر من خلالها أن الطبقة الجوية تعرضت لدرجة عالية وخطيرة من التدهور، مما أدى إلى اختلال في الفصول وفي تساقط الأمطار حسب السكان. الأضرار الصحية «جميع أفراد أسرتي يعانون من أمراض خطيرة أغلبها متعلق بالجهاز التنفسي، مثل الحساسية والربو والضيقة» كان هذا تصريح نور الدين الحريري بلحسن، الذي أفاد بأن جميع أفراد أسرته بلا استثناء يعانون من أمراض، بسبب استنشاقهم للغبار ولرائحة المتفجرات الصادرة عن المقالع، وهذا راجع كما سبق وأن ذكرنا إلى عدم استعمال المقالع لأشجار تحيط بها، ولأنابيب الماء أثناء عملية طحن الصخور للتقليل من حدة الغبار . فالدخان الذي تنفثه هذه المقالع يحتوي على غازات سامة، من شأنها أن تفضي بالإنسان إلى الموت التدريجي، ويقول عبد الله التايب، دكتور الأمراض التنفسية والصدرية، بخصوص هذا الشأن، إن الغبار الصادر عن هذه المقالع تنتج عنه عدة مضاعفات صحية، خاصة على مستوى الجهاز التنفسي، وأبرزها مرض السيلكوز أو ما يصطح عليه بالتحجر الرئوي، الذي يصيب الرئتين ويؤدي إلى صعوبة في التنفس بشكل تدريجي، إلى أن تصل الحالة إلى درجات مستعصية من المرض، يضطر المريض معها إلى الاستعانة بأجهزة التنفس الاصطناعي، أو عملية زرع رئتين، وهي العملية التي وصفها التايب بباهظة الثمن، حيث لن يستطيع السكان المجاورون لهذه المقالع أو العاملون بها تحمل تكاليفها نظرا لمستواهم الاجتماعي البسيط. ويضيف أن تلك الجزئيات الصغيرة والدقيقة جدّا من الغبار تتسرب إلى الرئتين عبر الأنف والفم، أما الجزيئات الأخرى الأكبر من حيث الحجم فتبقى عالقة بالفم والحنجرة والقصبة الهوائية والأنف، مما يؤثر على شعيراته بشكل سلبي، حيث تؤدي إلى التهابات مزمنة ينتج عنها فيما بعد عطس وسيلان مزمن في الأنف ونقص في حاسة الشم، بالإضافة إلى التهابات مزمنة للقصبة الهوائية تؤدي إلى مرض الربو والزكام المزمن مع احتمال الإصابة بداء السل الرئوي المعدي . كما تتأثر العيون بذلك عندما تستقر تلك الجزيئات بداخلها.و يتعرض السكان أيضا، حسب أبوعزة منياني بن التومي، إلى تسممات من حين لآخر، جراء شربهم لمياه الآبار التي اجتاحها الغبار، أو تناولهم لأغذية ملوثة، نظرا لأن الغبار نال حتى من الأواني التي تستعملها الأسر في عملية الطبخ، بالإضافة إلى مشاكل على مستوى السمع بسبب الألغام التي تصدر أصواتا صاخبة أثناء تفجيرها .